ممثلة القاع «أم يوسف»
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

ممثلة القاع «أم يوسف»

على الرغم من التداعيات السلبية كلها للحرب والأزمة، وبرغم المساعي البائسة كلها لتجريم القاع المجتمعي وتحميله المزيد من الأوزار، وبرغم الصعوبات الحياتية والاجتماعية والمعيشية كلها التي يتحملها أبناؤه، يؤكد هذا القاع أنه عمود الإرادة وحب الحياة ومهماز المستقبل.

أم يوسف امرأة عاملة في إحدى الورشات في ريف دمشق القريب، وهي واحدة ممن شردتهم الحرب والأزمة منذ بداياتها، فقد دُمر بيتها، كما غيره من البيوت في إحدى البلدات القريبة من دمشق، وخسرت معه ممتلكاتها ومقتنياتها، و«شقى عمرها» كما تقول، واضطرت للنزوح كما غيرها، والأكثر سوءاً أنها مطلقة بلا معيل، وربما يتشابه واقعها مع الكثيرات غيرها ممن كانوا «ضحايا جانبيين» خلال سني الحرب والأزمة الطويلة.

«كوام لحم برقبتي»!
تقول أم يوسف: نزحت من بلدتي منذ أعوام مع أطفالي الخمسة «كوام لحم برقبتي» ولا يوجد مأوى ولا معيل، واستقررْتُ أخيراً، بعد طول تشرد وشقاء، في أحد مراكز الإيواء، وتحت ضغط الحاجة، والأفواه الجائعة، لجأت للعمل في هذه الورشة. وقد كانت فرصة لها تقيها شرور العوز والاستغلال، ربما لم يحظ بها غيرها من النسوة، حسب قولها.
سجلت أم يوسف أطفالها الخمسة في المدارس القريبة من أجل متابعة تعليمهم، واضطرت للعمل في الورشة لساعات عمل إضافية من أجل الحصول على المزيد من الدخل، سداً للاحتياجات الأساسية للمعيشة، التي لا يمكن في حال من الأحوال أن تغطيها لا المساعدات ولا الإعانات، خاصة مع ما سمته «كأنها شحادة أحياناً»، مع الكثير الكثير من شد الأحزمة، فهي تعمل لمدة 12 ساعة متواصلة يتخللها نصف ساعة استراحة فقط، بأجر شهري عن ساعات العمل الأساسية لا يتجاوز 35 ألف ليرة، ومع ساعات العمل الإضافي يكاد يصل ما تتقاضاه من أجر إلى حدود 50 ألف ليرة، وهي تحمد وتشكر هذه النعمة، التي لا تخلو من الاستغلال عملياً.

لا هزيمة ولا انكسار!
أم يوسف تتباهى بإنجازها رغم سني النزوح والتشرد، وهي بدون شك محقة، فقد غدت إحدى بناتها طالبة سنة ثانية في كلية الطب، بينما شقيقتها الأصغر أصبحت طالبة سنة أولى في كلية الهندسة، وبقية أطفالها الأصغر سناً ما زالوا يتابعون دروسهم في مدارسهم.
تقول أم يوسف: إن الحرب والأزمة لم تهزم إرادتي، كما لم تكسر من عزيمة أطفالي، فبرغم شدة الفقر والحاجة، فقد كانوا أكبر من عمرهم، حيث تحملوا معها المسؤوليات وشظف العيش، وحمل الكبار منهم مسؤوليات الأصغر، على مستوى الاهتمام والرعاية بهم أثناء غيابها في العمل، وعلى مستوى متابعة التعليم والدروس «يقبروني ما عندهم طلبات، اللي موجود بياكلو من تم ساكت، وعم يدرسو ويعملو اللي عليهم وزود».
وتضيف: إن بناتها الاثنتين الكبار في الكثير من الأحيان يضطران للذهاب إلى جامعاتهن سيراً على الأقدام، لعدم توفر أجار المواصلات، وضرورة حضور المحاضرات: «من الصبح بيروحو ع لحم بطنهم، وبيرجعو بياكلوا مع أخواتهم ومعي عند المسا.. هي هالوجبة اليتيمة كل يوم، صارو عودة الله وكيلك.. بس عودة قاسية عركتها الدنية وحياتك».

بدنا نعمرها
وعن الأفق والمستقبل تقول أم يوسف بكل تفاؤل وكبرياء: «بعد كام سنة بناتي ح يصيرو وحدة طبيبة ووحدة مهندسة.. لك مين قدي أنا أم الدكتورة والمهندسة وراسي مرفوع».
ولم تخف أم يوسف رغبتها في الانعتاق من عبء العمل وتعبه وشقائه، قائلة: «بكرا بيشقوا طريقهم وبيشتغلوا وبيحملو عني كتف بأخواتهم الأصغر» كما لم تخف حنينها لبلدتها وبيتها المهدم حيث قالت: «بدنا نرجع ع البلد نعمر بيتنا ويصرلنا سقف إلنا من جديد يؤوينا لأرتاح بقى».

قاع الإرادة
لا شك أن الحرب والأزمة قد طالت تداعياتها السلبية غالبية السوريين، كلاً بقدر وكلاً بقسط، وقد كان نصيب فقراء الحال والمعدمين هو الأكبر على المستويات كافة، بمقابل القلة القليلة التي لم تنعكس عليهم الحرب والأزمة إلا بالمزيد من فرص العمر، عبر المزيد من ضخ الأرباح في جيوبها على حساب المفقرين والمشردين والنازحين.
فالموجودون في قاع المجتمع، رغماً عن إرادتهم، من فقراء الحال والمعدمين والمهمشين، كانوا منسيين قبل الحرب والأزمة، بمطالبهم وهمومهم ومعاشهم وخدماتهم ومستقبلهم، وقد أصبحوا ضحايا أساسيين لهذه الحرب، كما طحنتهم الأزمة بتداعياتها، وزاد عليهم من آثارها تكالب المستغلين عليهم من كل حدب وصوب، بالإضافة إلى وسائل التشويه كلها المتعمدة لواقعهم ومعاشهم.
أم يوسف واحدة من ممثلي قاع المجتمع بكل ما فيه من فقر وبؤس وشقاء، وبكل ما فيه من عزيمة وإرادة صلبة، مع كل الصدق والشفافية، وبكل ما فيه من انتماء على الرغم من الإنكار والتغييب الرسمي لها ولأمثالها.
وما من شك بأنها ليست وحدها الصامدة في هذا القاع، بل لعلها نموذج واحد فقط من نماذج كثيرة إيجابية غيرها، لكنها مغيبة ومنسية ومعتم عليها مثلهم، في مقابل تسليط الأضواء عمداً على بعض النماذج السلبية من هذا القاع من أجل تعميم تجريمه بالأذهان، والتعمية عن كل موبقات المترفين والمستغلين، وفجور تجار الحرب والأزمة والفاسدين، الذين يشدوا أزرهم بالسياسات الحكومية المحابية لهم، والتي كانت أصلاً أحد أهم الأسباب في هذا الفرز الاقتصادي الاجتماعي الطبقي، مع مفرزاته كلهم، بما فيها الحرب والأزمة الطاحنة نفسها مع تداعياتها كلها.
وكأن حال أم يوسف يقول عن لسان الموجودين كلهم في هذا القاع: «هنا القاع هنا الإرادة والكرامة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
838