لم تشردهم الحرب.. فشردهم المرض!
سمر علوان سمر علوان

لم تشردهم الحرب.. فشردهم المرض!

مساحة صغيرة تفصل بين مشفى المواساة والمبنى التابع للبيروني والمخصص لعلاج الأورام، ورغم ضيقها النسبي فإنها تحتضن العشرات من المرضى الذين ينتظرون بفارغ الصبر ميعاد الجرعة المقبلة.

فندق الفقراء
عند إحدى زوايا المبنى، جمعت أم عز الدين أمتعتها وعفشها البسيط، وجلست تنتظر زوجها المريض، هي على هذه الحال منذ نحو ستة أشهر، فقد قدمت بصحبة زوجها من قرية نائية في محافظة حماة، أملاً بعلاجه في العاصمة، ولأنهما لا يملكان أقارب مقيمين هنا، وليس لديهما ما يكفي لتحمل نفقات الفنادق طوال هذه المدة، اضطر الزوجان إلى أن يفترشا باحة المشفى بعد أن حملا معهما ما تيسر من أغطية وبطانيات يبسطانها على قطع من الكرتون، علها تدرأ عنهما البرد مع اقتراب الشتاء، دون وجود أية معلومات عن موعد انقضاء فترة المعالجة، بسبب الحالة الصحية المتردية للزوج، واقع فرض عليهما أن يعيشاه كلّ يوم على حدة، دون التفكير فيما يحمله المستقبل من عواقب، إذ يبدو الغد غامضاً، ولا تتراءى لهما نهاية هذا التشرد «المَرضي» إن جاز التعبير، وتتقاسم عتبات المشفى والطرقات بين المحافظتين أيامهما دون أن تترك لهما وقتاً للراحة، فكل 15 يوماً يمكث الزوجان قرابة عشرة أيام بين جنبات المشفى في انتظار الجرعة العلاجية، يعودان بعدها إلى قريتهما وأبنائهما الأربعة حتى موعد الجرعة التالية، ما يبدد نقود الأسرة الفقيرة بين تكاليف السفر والعلاج، عدا عن الإرهاق الجم الذي يتكبده أبو العز المنهك أصلاً بفعل المرض والسن.
ثنائية المرض والشيخوخة
ولدى أم محمد قصة مشابهة، فمنذ نحو شهر جاءت بصحبة والدها المسن، والذي اختطف منه الورم حنجرته وما تبقى من شعره الأشيب، وعلى بعض البطانيات وقطع الكرتون يستريح الوالد في انتظار جرعته المقبلة بعد أسبوع، تقول أم محمد: إن صبر والدها العجوز تداعى منذ أيام خلت، إذ ما عاد يطيق انتظار موعد العودة إلى المنزل، ما جعلها تستجدي من نزلاء المشفى الآخرين، شركائها في معاناتها اليومية، بعضاً من كلمات التشجيع لوالدها المستاء، ففي النهاية يمكنك أن «ترشي» طفلاً مريضاً بلعبة أو قطعة حلوى علّه يتناسى جانباً من آلامه إلى حين، لكن الوضع يغدو أكثر تعقيداً بالنسبة لمن خبِر الحياة بعد أن تقدم في السن، وغدا كل ما يأمله أن يقضي سنواته الأخيرة بكرامته في أحضان منزله.
«فوق الموتة..»
المرضى المقيمون مع أسرهم في العراء أتوا من المحافظات السورية المختلفة وجمعتهم هذه البقعة الصغيرة أمام المشفى، يحاولون أن يسترجعوا تفاصيل حياتهم اليومية في منازلهم، فيتبادلون الزيارات كل في زاويته المتواضعة، ويتقاسمون ما في جعبتهم من كعك أو فاكهة .. يحكون لبعضهم البعض كيف ساقتهم الأقدار إلى هنا، وكيف نجوا بمعجزة من التشرد بفعل الحرب، وانتهى بهم المطاف إلى التشرد بفعل المرض.
ومن حين إلى آخر يأتي بعضٌ من أفراد الأمن مطالبين القاطنين بإخلاء الساحة أمام المشفى وأن «يدبروا راسهن» ويجدوا مكاناً آخر.
وتوضح إحدى السيدات بحسرة: «لو وجدنا مكاناً آخر نبيت فيه لما أتينا إلى هنا، وبالطبع لا أحد يسر بقضاء ليلته في العراء، ولا سيما مع ازدياد البرد، فلماذا يستكثرون علينا حتى الأرصفة؟»
ازدحام خانق
أول ما يلفت نظرك عند دخول المستشفى هو: ازدحامه الشديد، فمنذ ساعات الصباح تغص أقسامه بالمرضى المنتظرين لجرعاتهم وتحاليلهم، ولا سيما في قسم القبول، حيث لا تكاد تجد موطئ قدم، ورغم أن الكادر الطبي يبذل قصارى جهده، كما أكد من قابلناهم من المرضى، إلا أن الطاقة الاستيعابية للمشفى أقل بكثير من عدد المرضى، ما يحتم على المريض انتظاراً طويلاً يضاعف همومه ومواجعه، والواقع أن هذه المشكلة لم تكن قائمة في البناء الأساسي للبيروني، لكن نقل المعالجة إلى جوار مشفى المواساة بحكم الأوضاع الأمنية في حرستا هو ما فاقم المشكلة.
تفاصيل مؤلمة..
أضف إلى ذلك مسألة عدم توافر بعض أنواع الجرعات العلاجية في المشفى، لأسباب كثيرة وذرائع عديدة، تبدأ من الحصار مروراً بتخفيض الإنفاق الحكومي ولا تنتهي بالفساد، ما يضطر الكثيرون إلى شرائها بأسعار خيالية ممن يوفرونها في السوق السوداء عبر التهريب، محولين المرض إلى تجارة مجزية ورابحة، ليتجاوز سعر الجرعة أحياناً 60 ألف ليرة سورية، حسب النوع والاسم والمواصفة والمصدر، وحسب «شطارة» المهرب البائع، الذي يتمثل غالباً بصيدلي أو طبيب كواجهة تسويق معتمدة مع حصة من الأرباح.
نفقات مرهقة دفعت كثيرين إلى استبدال الأدوية الفعالة بأدوية أقل كفاءة وجدوى، علّها_ بمعجزة ما_ تجدي معهم نفعاً، فيما يُحجم آخرون عن العلاج قاصدين ما يعرف بالطب البديل.. تلك الخرافة الساذجة التي تقتات على فقر المرضى وعجزهم عن نفقات العلاج الحقيقي.
تقارير
يشير تقرير نشرته إحدى وسائل الإعلام منذ بضعة أشهر، أن تقديرات غير حكومية تفيد بأن 80% من مرضى السرطان السوريّين يقصدون مستشفى البيروني مرّة واحدة على الأقلّ لإجراء الفحوصات التشخيصيّة الدقيقة، فيما يتلقى أكثر من 50% من المرضى علاجهم كاملاً فيه، ما يوضح حجم المعاناة بسبب العدد الهائل من المراجعين يومياً، والذي يقدره التقرير بـ 1400 مريض يومياً.
ويذكر أن منظمة الصحة العالمية حذرت من أن انعدام الأمن، إلى جانب محدودية فرص الحصول على العلاج في سورية، لا تترك فرصة سوى بنسبة 20% للبقاء على قيد الحياة للأطفال المصابين بالسرطان.

أمام هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه مرضى السرطان خاصة، والمرضى جميعهم عموماً، وخاصة فقراء الحال والمعدمون، تبدو أهمية استعادة الدولة لدورها الكامل على المستوى الصحي من الضرورة بمكان، ليس على مستوى زيادة الإنفاق على هذا القطاع وتأمين متطلباته كافة، وتخليصه من صعوباته فقط، بل وعلى مستوى لجم تجار الحياة، من المستغلين والمهربين والفاسدين، بألوانهم وصفاتهم وتصنيفاتهم المختلفة، الذين استباحوا جيوب الفقراء على حساب مرضهم ومعيشتهم ومستقبلهم، وازداد نشاطهم خلال سني الحرب والأزمة بشكل لافت، بسبب تراجع الدور الحكومي الرسمي على المستويات كافة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
837