رياضة مفروضة بِعُمُر الستين!

رياضة مفروضة بِعُمُر الستين!

معاناة أصحاب المعاشات التقاعدية لم تقف عند حدود هزالة هذه المعاشات بالمقارنة مع متطلبات الحياة وضروراتها، بل تعدتها إلى الكثير من الصعوبات، الإدارية والفنية والتقنية وغيرها، مما لا شأن لهم بها، والتي تواجههم أثناء تحصيلهم لهذا الراتب الهزيل كل شهر.

فبعد مضي أكثر من نصف ساعة في طابور الانتظار، فوجئ أبو محمد عندما أفاده الصراف الآلي بعدم توفر رصيد في حسابه، وذلك بموعد استحقاق الراتب التقاعدي الشهري، الذي اعتاد عليه، فما كان منه إلا أن يعيد التجربة مرة أخرى، ظناً منه بأن هناك خطأ ما، ولكن لم تكن النتيجة الثانية بأفضل من الأولى، حيث أصر ذاك الصراف الآلي اللعين، على عدم توفر رصيد في حساب أبي محمد.

حاجة وانكسار
نظر أبو محمد يمنةً ويسرةً وهو يخاطب نفسه عن سبب عدم وجود رصيد باسمه، على الرغم من أن الآخرين، مِمّن سبقوه ومن تلوَه في الطابور، تعامل معهم الصراف الآلي بكل احترام، ومنحهم استحقاقهم الشهري كما كل مرة.
عاد أبو محمد إلى منزله مكسور الخاطر، حيث لم يستطع أن يؤمن قائمة المستلزمات التي أعطته إياها زوجته، قبل الخروج من المنزل، وهو يفكر كيف سيقنعها بأن تلك الآلة اللعينة، المسماة بالصراف الآلي، كانت السبب في عدم توفير مستلزماتها، وبأنه سيعاود الكرة مجدداً في اليوم التالي عسى ولعل تفرج الآلة عن رصيده.

هانَ الودّ
صباح اليوم التالي، ذهب أبو محمد مبكراً هذه المرة، وعلى الرغم من ذلك اضطر للانتظار في الطابورِ نصف ساعة أيضاً، ووصل دوره أخيراً، أمام تلك الآلة، وضع بطاقته وأدخل رقمه السري «مبتسماً» علها تفرج عن رصيده الشهري الرّث هذه المرة، ولكن دون جدوى، لا رصيد في حساب أبي محمد!، فاستشاط غضباً من الآلة اللعينة التي تستهدفه بحياته ومعيشته وسوء علاقته مع زوجته وأفراد أسرته، وظهر على محياه الغضب، راغباً أن يقتلع عيني تلك الآلة، فكيف لها أن تتعامل معه بهذا الجفاء، وقد لاقاها مبتسماً وتعامل معها بكل ود؟!.

النصيحة بجمل
أحد الواقفين بالطابور لاحظ الغضب والانكسار في عيون أبي محمد، فأشار له بأن يراجع إدارة المصرف، عله يجد الجواب عن سبب عدم تحويل الراتب التقاعدي.
الفكرة لاقت الارتياح لدى أبي محمد فاندفع مباشرة ًإلى إدارة المصرف العقاري القريب من موقع تلك الآلة، وبظنّه أن يشتكي عليها، وعلى سلوكها المتعجرف معه.
بعد أخذِ وصدٍ بين الغرف وعلى الكونتوارات وبين الموظفين والمراجعين، لم يجد أبو محمد غايته في المصرف، حيث لم تفلح شكواه على الصراف الآلي، فجواب العاملين في المصرف كان: أن مشكلة عدم توفر رصيد في حسابه كانت من تأمينات دمشق، التي لم تدرج اسمه في القوائم الشهرية، كما جرت عليه العادة في كل شهر، والسبب ليس من الآلة التي حنق منها ومن سلوكها معه، وعليه أن يراجع مؤسسة التأمينات من أجل ذلك.

بَدْءُ النزهة
خرج أبو محمد إلى تأمينات دمشق مباشرة، وبظنه أن الأمر سيحل هناك بشكل مباشر، ليعود إلى زوجته بالمستلزمات، التي طلبتها في اليوم السابق.
هناك حيث الازدحام الشديد، والغرف الممتلئة بالمراجعين، وبعد عدة أسئلة واستفسارات استهدى أبو محمد أخيراً للغرفة، التي عليها الاعتماد في إعادة راتبه التقاعدي، والكائنة في الطابق الثالث، وفي الغرفة المذكورة عدة طاولات، توزّع عليها عدد من الموظفات، وحول كلٍّ منها اكتظاظ بشري، من المراجعين، كلُّ منهم له استفساراته، وله معاملته الخاصة.
«طاحش» أبو محمد بين أقرانه، من المتجمهرين أمام إحدى الموظفات وسألها عن سبب عدم تحويل راتبه التقاعدي لهذا الشهر، فقالت له: أن عليه أن يحضر بياناً عائلياً من النفوس، دون أن تقدم له أي مبرر لذلك!، وبظل الازدحام كظم غيظه مغادراً هذه الجمهرة من أشباهه، من المواطنين أصحاب الأجور التقاعدية.
انتهى الدوام الرسمي، ولم يعد بإمكان أبي محمد الذهاب إلى دائرة النفوس، ما أجبره مرةً أخرى على مواجهة زوجته. بحقيقة عدم توفير مستلزماتها لهذا اليوم أيضاً، وتحمله جفاءها جراء ذلك.

نفوس ونفوس
صباح اليوم التالي، ذهب أبو محمد إلى دائرة النفوس، اشترى طابعين، ودفع ثمنهما 100 ليرة، علماً بأن القيمة المسجلة على كل منها كان 10 – 25 ليرة، أي بمحموع قدره 35 ليرة، وبزيادة مدفوعة عن القيمة المسعرة 65 ليرة، هكذا سرقة علنية، وذلك من المحل المرخص رسمياً لبيع الطوابع، ودخل إلى الدائرة، وطلب بياناً عائلياً باسمه، وحصل عليه بعد أقلِّ من نصف ساعة عملياً، مما أفرح أبي محمد، حيث يستطيع أن يذهب إلى تأمينات دمشق خلال الدوام الرسمي.

رياضة بهلوانية
وصل إلى تأمينات دمشق، وهذه المرة ذهب مباشرةً إلى الموظفة بالطابق الثالث، أعطاها بطاقته الشخصية، والبيان العائلي الممهور مع الطوابع الملصقة عليه حسب الأصول، فأشارت له الموظفة أن يذهب إلى الطابق الثاني، فهناك شعبة الحاسب، من أجل تسجيل رقمه التأميني.
نزل ابو محمد إلى الطابق الثاني، وانتظر موظفة الحاسب حتى فرغت، وطلب منها الرقم التأميني، أخذت الموظفة بطاقته وفتحت السجلات الإلكترونية على اسمه، وسجلت الرقم على قصاصة ورقية، ونصحته بالاحتفاظ بها، وقالت له: عُدْ إلى الطابق الثالث.
بالفعل عاد أدراجه إلى الطابق الثالث، وإلى الموظفة ذاتها، حيث أخذت البيان العائلي الخاص به وسجلت بعض المعلومات على خلفيته، وأشارت إليه بالذهاب إلى رئيس الدائرة الموجود بالطابق نفسه لتوقيعها، ثم الارتقاء للطابق الخامس إلى دائرة التدقيق.
حمل أبو محمد الورقة إلى رئيس الدائرة، الذي وقّعها وختمها، وسارع بالصعود إلى الطابق الخامس، وقد بدأت ملامح التعب تبدو على وجهه، جراء الرياضات البهلوانية التي لم يعتد القيام بها.
في دائرة التدقيق أيضاً، ازدحام وجمهرة من المراجعين، من أصحاب المعاشات التقاعدية، انتظر قليلاً ثم جاء دوره أمام الموظفة التي أخذت الورقة من يده، وفتحت الحاسوب على ملفه الإلكتروني، وسجلت بعض الأرقام بحاشية إضافية، جانب الإحالة السابقة، ولكن بالقلم الأحمر هذه المرة، وأشارت لأبي محمد بالعودة إلى الطابق الثالث مرة أخرى.

روح رياضية وصدمة عَوْز
بالفعل وبكل روح رياضية، نزل أبو محمد الأدراج وصولاً للطابق الثالث، وإلى الموظفة ذاتها، منتظراً مرة أخرى الحشد أمامه، وأخيراً استطاع أن يعطيها الورقة «البيان العائلي» المذيل بخلفه حواشٍ وتوقيع رئيس الدائرة وأرقام مسجلة بالأحمر.. نظرت الموظفة إلى الورقة وأشارت له بأن يضعها مع شبيهاتها من الأوراق المكدسة أمامها على الطاولة.. وقالت له: «خلص مشي الحال الشهر الجاية بينصرفلك راتبين بدل واحد»!!.
لم يعرف أبو محمد، هل يفرح أم يغضب أم يزعل أم.. حيث كُلّلت أعماله ونشاطه، ورياضة صعود وهبوط الأدراج، ومراجعة العديد من الجهات الرسمية، بالإفراج عن راتبه أخيراً، ولكن لن يستطيع الحصول عليه إلا في الشهر القادم، كما لم يعرف لماذا تم توقيف راتبه بالأصل، حيث لم يجبه على ذلك أيٌّ من العاملين في الطوابق التي راجعها كلها في مبنى تأمينات دمشق، فما كان منه إلا أن سأل أحد المراجعين ممن شاهدهم يمارسون رياضة صعود وهبوط الأدراج، علّه يملك الاجابة عن سؤاله بنهاية المطاف.

إجراء روتيني غير معلن
بالفعل كان هذا المراجع يملك الإجابة الشافية، حيث قال لأبي محمد: أن هذا الإجراء روتيني، ففي كل مرة يتم اختيار عينة من أصحاب المعاشات التقاعدية يتم إيقاف رواتبهم، ليضطروا لمراجعة التأمينات التي تتأكد من كونهم على قيد الحياة عبر وثيقة «البيان العائلي» أو «إخراج القيد»، ومن لا يراجعهم بهذه الوثيقة يعني أنّه ربما من المتوفين، وبالتالي يستمر إيقاف راتبهم لحين مراجعة أحد ذويهم من الورثة بحال وجودهم، لاستكمال معاملة أخرى، وهكذا..

عدم اكتراث
أما عن مفاجأة أصحاب المعاشات بإيقاف رواتبهم، وبقائهم شهراً كاملاً دون دخل، أو كيف سيعيشون ويؤمنون احتياجاتهم خلاله، وهو حق من حقوقهم، ناهيك عن ممارسة الرياضة التي تفرض على هؤلاء، بين الدوائر الرسمية وبين الغرف، وهم بعمر الستين وما فوق عملياً، كل ذلك لا جواب عليه ولا مبرر له.
وتبقى مشكلة أبي محمد الكبرى الآن؛ كيف سيواجه زوجته، بحقيقة أن قائمة مستلزماتها المكتوبة على القائمة، التي حمّلَتْهُ إياها منذ ثلاثة أيام، سيتم تأجيلها شهراً إضافياً!، كما سيوقف حياته وحياة أسرته طيلة هذا الشهر!
هذا ما لم تكتبه اللوائح والقوانين، ولكنه جارٍ بحكم العرف السائد من اللامبالاة، وعدم الاكتراث بالحقوق!

معلومات إضافية

العدد رقم:
795
آخر تعديل على السبت, 28 كانون2/يناير 2017 21:19