التقنين بغياب العدالة
لم يكن المواطن السوريّ بتاريخه مسرفاً، أو مبذراً، فالتقنين والتوفير، وحسن استثمار الإمكانات المتاحة بين يديه، وتوجيهها بالشكل المناسب بما يلبي احتياجاته، تعتبر من سماته ومن طبائعه على مر العصور.
لكن الحرب والأزمة المستمرة منذ ستة أعوام وحتى اليوم، كانت الكارثة الأسوأ على الإطلاق بكل تاريخ حياة السوريين، ليس بسبب تغير طبائعهم وموروثهم، على العكس تماماً، فتلك الطبائع والموروثات كانت السبب الرئيس في التخفيف من آثار تلك الحرب الكارثية حتى الآن، بل بسبب السياسات الاقتصادية الاجتماعية للحكومات المتعاقبة، التي أضرّت بشكل كبير بمستوى معيشتهم وبخدماتهم وبتشويه بنيتهم الاجتماعية.
موروثات
هذه الطبيعة الموروثة، فسحت المجال أمام السوريين، كي يكونوا قادرين على تحمل صعوبات الحياة وشظف العيش في الملمّات، والانكسارات والمصائب على مر السنين والعصور، وساعد ذلك بشكل كبير، على تشكيل بنية مجتمعية متماسكة ومتعاطفة ومتكاتفة على السراء والضراء، مما كان له الأثر الكبير على مستوى تعزيز حسن استثمار الإمكانات وتوجيهها، بمعزل عن الأشكال والنماذج الاقتصادية كلها، التي كانت تتبعها الحكومات، بما في ذلك التوجهات الليبرالية للحكومات المتعاقبة أخيراً.
الحرب والسياسات المتوحشة
تظافر الانعكاسات السلبية للحرب والأزمة، مع سلبيات السياسات الحكومية الليبرالية، التي كشرت عن أنيابها المتوحشة خلال فترة الحرب والأزمة بشكل غير مسبوق، كان لها الفعل الأكبر والأعمق على مستوى حياة السوريين الاقتصادية والمعيشية والخدمية، وحتى الاجتماعية.
حيث كانت تلك السياسات وبالاً مضافاً، على وبال النتائج المباشرة للحرب والأزمة، المتمثلة بالدمار والتشرد والنزوح، لتضيف إليها البطالة والفقر والعوز والجوع، والإهمال المتعمد على مستوى الخدمات العامة، والتغاضي عن السرقات والتعفيش، والنهب الجاري على قدم وساق، من قبل شبكات الفساد المتحالفة مع تجار الحرب والأزمة، والذي بات جزء منه مشرعناً بحكم القوانين واللوائح والتعليمات الرسمية في بعض الأحيان.
مزاودات واستنزاف
الشعارات الحكومية المتمثلة بالتقنين والترشيد، وشد الأحزمة وغيرها، والتي أرادت الحكومات المتعاقبة عبرها، أن تمرر مصالح كبار التجار. والمستوردين والفاسدين، على حساب بقية شرائح المواطنين، لم تكن بالنسبة للسوريين سوى نوع من المزاودات الحكومية على واقعهم، ومزيدٍ من الفاقة والعوز على معاشهم وخدماتهم، ليس لأنهم عاجزون عن تحمل مشاق التقنين والصبر عليه، ولكن بسبب عدم العدالة فيه، حيث تراجعت الحكومات رويداً رويداً، عن الدور الحكومي على مستوى مصالح عموم المواطنين، اعتباراً من الإسكان مروراً بالتوظيف وليس انتهاءً بالإنفاق على الخدمات العامة، ليحل مكان الحكومة وأجهزتها بهذه المجالات الواسعة، حفنة من المستثمرين والتجار والفاسدين، في تحالف شيطاني استنزف الوطن والمواطن معاً، وليستفحل هذا الاستنزاف بشكل كبير خلال سِني الحرب، حاصداً الإمكانات المتاحة لدى المواطنين كلهم نهباً متواصلاً حتى الآن، بمباركة حكومية رسمية، تحت ذرائع الحرب والحصار.
السوريون لم يشهدوا تقنيناً على السرقات والنهب، كما لم يشهدوا تقنيناً بمسِّ كبار التجار والفاسدين، كما لم يشهدوا تقنيناً على مستوى الإنفاق الحكومي الذاتي، بل على العكس من ذلك تماماً، فَجُلّ هؤلاء لم يعرفوا التقنين، ولم يعيشوا تبعاته، فيما كان نصيب المواطنين المزيد من الضغوط الحياتية والمعيشية والخدمية، بحرب استنزاف اقتصادية، مضافةً للحرب القائمة، وبنتائجهما التي أصبحت كارثيةً على المستويات كافة.
الانعكاس المجتمعي هو الأخطر
لعل الأخطر من ذلك كله، هو الاستنزاف الذي طال الجانب الاجتماعي ببنيته وعمقه، الذي يُخشى عبره من تداعي المجتمع السوري، بمكوناته وقيمه ومخزونه الثقافي والفكري، والمعرفي التاريخي الحضاري، بسبب هذا التغول لانعدام العدالة الاقتصادية والاجتماعية، سواء على مستوى الأفراد، أو على المستوى المناطقي والإقليمي، وليس من شاهدٍ أفضل على ذلك من المقارنة بين أية منطقة عشوائية، مع غيرها من المناطق الأخرى، وفقط على مستوى الخدمات لا غير، فما بالنا ببقية المقارنات التي تفقأ العين أحياناً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 795