بلدات ومدن مستنسخة.. المخططات التنظيمية في ريف دمشق.. من يخرجها إلى الواقع؟!

«أهلاً بكم في محافظة ريف دمشق» لطالما استفزت الكثيرين هذه العبارة وشبيهاتها، وهذا لا يعود لعدم حب الناس بالترحيب الذي يلقاه أي قادم إلى المدينة الشاسعة الجميلة، ولكنه يعود إلى ما يتبع هذه العبارة من معالم نافرة وناشزة، بل ومخجلة في البنى التحتية، والمنظر العام، ووجوه الناس، والألوان التي تكسو البيوت والشوارع.
هنا ريف دمشق، مدن وبلدات متشابهة ومستنسخة، نفس العبارات التي تعلن أنك في الطريق لإحداها، ونفس الحجر الشاحب الذي صنعت منه الأقواس، وبعد أمتار تعلن المطبات والحفريات، ومخالفات البناء، والامتدادات العشوائية عن صيغة موحدة لهذا النسيج المتشابه حد القهر.. إنها سورية التي أنهكها الفساد وعاث بمواردها ومخططاتها وبرامجها وحجرها وشجرها وإنسانها الفاسدون والناهبون الكبار

حدود متداخلة
شارع يحول بين مدخل الحجر الأسود ودمشق، وبين معضمية الشام ودمشق، وفي مدخل المدينتين تستقبلك عبارة محافظة ريف دمشق ترحب بكم، وهنا يمكن أن يهتم البشر القاطنون على الحدود غير المرسمة بين المحافظتين بشكل الخدمات المقدمة، وسعر الأرض، والعقارات التي تقفز هنا، وتنحني هناك.. وريثما يتم التوصل بين لجان المحافظتين التي ربما تنضم إليهما القنيطرة إن كان الأمر يتعلق بتجمع للنازحين يمكن استملاك عقارات لمصلحة شق شارع على سبيل المثال يطيح بأحلام ساكنيه في التعويض والبديل.
كذلك لا تبعد المليحة أكثر من كيلو مترات قليلة عن مدخل دمشق في باب شرقي، و(داريا) تتمدد إلى حدود كفرسوسة التي تقع قرب وسط العاصمة، وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن الفارق المذهل بين جسد العاصمة العمراني مرتفع السعر، وجواره الفقير الزراعي، والسابق كان كما تنظيم كفرسوسة بساتين لفلاحيها الذين سكنوا فيما بعد ما تبقى منها.
 
المخططات التنظيمية.. المعضلة
بين خارج المخطط وداخل المخطط، وحرم المخطط، وفي انتظار المخطط الإقليمي، واللجان المجتمعة ستنتهي كل أزمات الريف الدمشقي المتشابهة، وستعود المساواة لكل الأحياء على اعتبار أنها تستحق الخدمات وعناية البلديات.
وفي وقت سابق صدر عن وزارة الإدارة المحلية قرارات تضمنت عدم تخديم المخالفين، ومن ثم تم التراجع عن هذه القرارات من منطلق سياسة الأمر الواقع التي تقتضي تخديم أي مواطن سوري بأساسيات الحياة الإنسانية أينما كان مقيماً.
وبين داخل المخطط وخارجه عاش البعض بانتظار دخوله سنوات نائمين على قطعة أرض ربما تصير ثروة، وانتظر آخرون على عقاراتهم التي هرمت عقوداً ريثما تنهي اللجان الإقليمية أوضاعهم، وتصير العقارات أماناً لأبنائهم وأحفادهم.

المخططات.. شماعة الرشوة
داخل المخطط يصير بيتك صالحاً للبيع والشراء دون خوف، ومن الممكن أن تقدم لك البنوك القروض العادلة والظالمة، وتقدم المصارف العقارية العروض والتخفيضات على فوائدها، ويمكنك أن ترهنه وتستعيده، وساعة الكهرباء تصلك بموعد سريع، ولا يحوم حولك معقبو العقارات والمحامين الصيادون للخلافات العقارية والإرث.. دون أن ننسى هنا أن الأمر نسبي، نسبي جداً، بالنسبة لبلاد ينخرها الفساد والبيروقراطية والمحسوبيات المختلفة.
خارج المخطط محكوم بالكاتب بالعدل، والمخالفات التي لا تحل إلا برضا المالك الحقيقي، وبناء جدار قد يعرضك للمخالفة، والبنوك حلم بعيد، ولا قروض مخفضة ولا عادلة.. وقد تغزو قرارات استملاك مفاجئة أية أرض وأي عقار..
ولهذا انفتحت أبواب واسعة وعلى مصاريعها أمام الفاسدين الذين يعيشون في المكاتب الفنية تحت مسميات ورش الهدم، وأنصاف المهندسين، والذين يستغلون حاجة المواطن في هذه المشاعات الإسمنتية لبيت يؤويه.
وبظل هذه العقليات اتسعت المناطق الخارجة على التنظيم، وامتدت بقبح إلى الشوارع المنظمة في عناق غبي يوضح لمن يريد التفتيش من الرقابة الداخلية بأن أمراً مريباً يجري، ولكن النتائج تأتي دوماً على رأس المواطن، أو بالتراضي.
وبعض الأحياء المحظوظة هيئ لها أن تدخل المخططات التنظيمية بشكل مفاجئ بسبب تعيين محافظ مقرب لأحد ساكنيها، أو متنفذ قادر على لي عنق المخطط ليحتضن الحي الجديد المنظم. والأمثلة أكثر من أن تحصى عن مخططات تعرجت وتلوت وتقطعت وتوصلت واتسعت وانفرجت حسب إرادة متنفذ أو صاحب سطوة في جهة تنفيذية ما أو خارجها..
 
مرحلة واحدة لريف دمشق
الاجتماع الذي ترأسه محافظ ريف دمشق أخيراً خرج بجملة من التوجيهات، وتحدث عن إنجاز مرحلتين من المخطط النهائي لمحافظة ريف دمشق، والانتهاء من مرحلتين.
أشار المحافظ إلى أهمية التخطيط الإقليمي، ودوره بتحقيق التنمية المتوازنة مع الأخذ بعين الاعتبار تحديد المناطق المأمولة من خلال إعطاء بيانات دقيقة لعمليات النمو المستقبلية، والتي من خلالها يمكن الوصول إلى مخططات إقليمية قادرة على تلبية الحاجة لسنوات طويلة دون الحاجة إلى تعديلها كل فترة.‏
وفي حديثه مع أعضاء لجنة التخطيط الإقليمي أشار المحافظ إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والديمغرافية لكل منطقة مع مواكبة الحفاظ على البيئة ولحظ منظومة متكاملة للنقل، وتأمين إدارة رشيدة لأراضي أملاك الدولة، والدراسة الدقيقة للبنية التحتية وشبكات الخدمات،
مديرة مشروع المخطط الإقليمي شرحت الخطوات التي تم قطعها لإنجاز المشروع، فالأولى تضمنت جميع البيانات لمنطقة الدراسة ،والثانية تضمنت تحليل البيانات.
رغم أهمية المرحلتين الأولى والثانية ولكن المدد الطويلة لهذه الدراسات تضع عقبة أمام الأمل في إنجاز المرحلة الثالثة، فعشرات السنوات من الانتظار للوصول إلى تحقيق أحلام السوريين في مدن منظمة، واحياء تنتشر أفقياً عكس طبيعة الحياة العصرية أمر في غاية الغرابة، ويستدعي قرارات صارمة أمام هذه اللجان.
المرحلة الثالثة التي تحدثت عنها مديرة المشروع فهي تتضمن وضع إستراتيجية تخطيطية عامة، حيث تشمل مرحلة الدراسة كامل مساحة محافظة ريف دمشق البالغة 26 ألف كم2 بعدد سكان يبلغ نحو 1.7 مليون نسمة.‏

ضحية اسمها الأراضي الزراعية
ريف دمشق بالكامل هو قطعة أرض زراعية تطاول عليها البشر وتحولت إلى ما يشبه غابة من الأسمنت، وتحولت البساتين إلى مخالفات بناء، ومشاريع سكن مؤقت، وهذا يعود أولاً إلى عجز القوانين عن منع البناء فيها، وإلى الحاجة الماسة للسكن، وكذلك اضطرار الفلاح لبيعها بسبب عجزه عن استثمارها وخصوصاً بعد أن منعت الدولة عنه الدعم، وتركته وحيداً في مواجهة الأزمات والغلاء.
تقلصت المساحات الخضراء التي تم الاعتداء عليها علناً، ولم تتمكن وزارة الزراعة من منعها، وتواطأ بعض مدراء الزراعة عليها، وتم البناء على حدود مجاري الأنهار، وسدت بعض الينابيع في الريف الغربي لبناء عقار، وتعرضت الأشجار للاقتلاع الجائر من الشوارع من بعض رؤساء البلديات من أجل أمتار قليلة لخدمة صاحب محل أو دكان.

البنى التحتية.. على المخطط فقط
تسير الخدمات الأساسية على هدى المخطط، وتترك مساحات السكن العشوائي على هواها في الإساءة إلى البيئة والتربة دون رادع، ولأنه لا يجوز أن تقر المشاريع لتخديم مناطق السكن العشوائي تضررت مناطق أخرى نظيفة ومخدّمة، ففي مدينة قطنا نتيجة للتأخر في إنجاز مشروع الصرف الصحي لأحد الأحياء المخالفة تم تلويث نبع الماء الذي يشرب منه سكان المدينة، وهو من أعذب الينابيع في الريف الدمشقي كونه يتغذى من ذوبان ثلوج جبل الشيخ.
القصة كانت في استخدام الأهالي للحفر الفنية مما أدى لتسرب المياه المالحة للنهر وبالتالي إصابة أكثر من ألف مواطن بوباء التهاب الكبد الوبائي الأمر الذي اجبر المجلس البلدي على إقرار مشروع الصرف الصحي عاجلاً، بالرغم من ذلك تعرض لصعوبات في إنجازه، وبقي جزء ضمن الحي الذي يكب دون تخديم بسبب المخالفات الكثيرة التي نشأت نتيجة لتعاطي الجهات المعنية مع هذه الحالة باللين والانتهازية.
مشاريع المياه في نفس المدينة ليست بأحسن حال من الصرف الصحي، وما زالت نفس الأحياء ممنوعة من التخديم وهذا ما أدى إلى تعرض شبكة المياه إلى اعتداءات كبيرة، وكسر في أنابيب التغذية مما أدى إلى اختلاطها مع الشوائب وبقايا الحيوانات الميتة لكونها تمر بأماكن خالية متسعة.
الكهرباء في هذه المناطق تعيش على شبكة نافقة ومهترئة، وتتعرض لاعتداءات كثيرة، وفي أحد الأحياء تمدد الكابلات الكهربائية على الأرض لمسافات بمئات الأمتار، والمواطنون يتحدثون عن عدم موافقة الجهات المسؤولة عن الكهرباء على تخديمهم بساعات كهربائية تنظم لهم الاستهلاك، وتحميهم وأبناءهم من أخطار السرقة، ولطالما تتحدث الحكومة عن الفاقد الكبير للطاقة في سورية يقول مواطن: لماذا لا تحاول ضبطه، ومنعنا من السرقة.


ضابطة البناء.. الفالتة
تضيع (الطاسة) في الريف المنسي، والمخالفات في ضابطة البناء كبيرة، والطوابق الخمسة تصير ستة طوابق بين ليلة وضحاها، وبين ليلة أخرى وضحاها يسقط البناء وتقع كارثة إنسانية.
ويتميز نظام ضابطة البناء في ريف دمشق بالاختلاف بين منطقة وأخرى، ومن الممكن أن تجد في مناطق السكن محالاً تجارية، وتتداخل مناطق البلدات القديمة مع السكن الحديث، وتمرر البلديات بحجة الترميم مخالفات جسيمة من اعتداء على مواصفات البلدة القديمة. وأثناء الأزمة الحالية جرت اعتداءات مريعة على البساتين والحقول والوجائب والأملاك العامة والخاصة، ولم (يجرؤ) أحد على الاقتراب من هذه المخالفات أو التفكير بإزالتها!!

 
الأزمة.. أعباء إضافية
الأزمة الوطنية الناشئة ومشاكلها واستعصاءاتها التي توشك أن تصير مزمنة، وغياب دور الجهات الوصائية الفاعلة أدت إلى تفاقم ظاهرة السكن العشوائي التي غيرت الصورة على الأرض، وارتفعت أبنية، وأضيفت أحياء مخالفة جديدة تتطلب إعادة النظر بما كان قبل الأزمة على الأرض والمخططات.
فإذا أخذت المخططات التنظيمية سنين طويلة لتجاوز المرحلتين الأولى والثانية، ولم تكتمل بعد الخطوة النهائية التي أيضاً ربما تحتاج إلى وقت طويل فكيف سيتم التطابق بين الأرض والمصورات المرفوعة.
أيضاً سيرتب هذا التنامي مشاكل في البنى التحتية لهذه التجمعات، وسيكون لزاماً على الجهات المختصة النظر إليها على أنها أمر واقع لا بد من العمل على تخديمه، ومن ثم الالتفات إلى الشكل النهائي لتموضع هذه الكتل الاسمنتية التي تمتلئ بالبشر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
541
آخر تعديل على الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2016 03:21