المشردون يفترشون الأرض ويلتحفون السماء

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، بؤس فقر تهميش وتشرد هي نتيجة منطقية للحالة الاقتصادية الاجتماعية المتردية، التي أدت إلى كل هذا القهر والتخلف. كيف لا؟ والمتشردون في كل مكان، فما من حديقة خالية منهم، وما من كراج، فهذه الأماكن يرتادها المشردون الذين لا مأوى لهم، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء من برد الشتاء وحر الصيف.

تشمل هذه المعاناة المستمرة لآلاف الأشخاص من ضحايا الظلم الاجتماعي والعنف الأسري، فئات متعددة: صغار وكبار، رجال ونساء يجمعهم همّ واحد: العيش في العراء والنوم على الأرصفة وتحت الجسور، أكل بقايا الطعام مما يزيد عن الناس، حتى من القمامة إن لزم الأمر.

إنهم ضحايا مجتمع يعيش فيه القلة على حساب وصحة المجموع، حتى يستمر الأسياد في تكديس ثرواتٍ ويزدادون غنىً، ويتحول الباقون إلى عبيد وخدم وبدون (وهي فئة معروفة عالمياُ، بدون هوية بدون سكن بدون عمل).

هناك من يعتقد أن بعض المشردين ربما تعجبهم مثل هكذا حياة، لا مسؤولية فيها!!! إنها الظروف حتماً التي دفعت بهم إلى هذا العيش وليست هذه هواية.

العودة إلى الإنسان البدائي

لم يعد المشرد يختلف كثيرا عن الإنسان البدائي الذي كان يأكل ما يصيده ويلبس من جلودها ثم يخلد للنوم في مكان بعيد عن أعين ومخالب الحيوانات المفترسة فوق الشجر إنها الحياة البدائية.

حلمت بأن أحدهم يخنقني

زهير في السابعة عشرة من عمره ينتمي لعائلة فقيرة مؤلفة من سبعة أشخاص يعمل والده سائقا في ريف حلب يقول: «عندما حصلت على الشهادة الابتدائية تركت المدرسة بناء على طلب والدي لمساعدته في المصروف وعملت في مطعم منذ الصباح وحتى وقت متأخر بمبلغ لا يتجاوز 2000 ل.س ثم عملت في العديد من الأعمال وسجنت مرتين وفي الثالثة تم توقيفي لمدة أربع وعشرين ساعة بتهمة التحرش بفتاة في الطريق وتبين السبب قبيل الإفراج عني عندما طلبوا مني العمل معهم أي الشرطة ومساعدتهم في نقل الأخبار عما يحدث في أماكن وجودي، وعندما رفضت نلت نصيبي من الضرب المبرح المنقوش على جسمي وعند كل عودة إلى المنزل كان والدي يقوم بضربي بأي شيء، وربطني بجنزير حديدي لعدة أيام، بعدها لم أعد إلى البيت، أتنقل بين الحدائق أنام وآكل هنا، وفي كثير من الأحيان أفكر في الهرب، لو كان هناك من ساعدني لأصبحت شخصاً مهماً فلدي صوت جميل، وكنت أحلم أن أصبح مغنياً لكنني اليوم مشردٌ في الشوارع، و تلاحقني الكوابيس.

في أحد المرات كنت نائماً في حديقة العدوي حلمت بأن أحدهم يخنقني «.

والدي ومزاجه السيئ

خالد في الثالثة والعشرين من عمره كان يعيش حياة طبيعية في منزل أهله ويدير المنزل في غياب والده الذي كان يعمل في ليبيا لكن بعد عودته تغيرت الأحوال، يقول: «كنا نعيش حياة عادية بعيدة عن التشرد لكن عند عودة والدي من الغربة بمزاجه السيئ تحولت حياتنا إلى جحيم، فصار يضرب أخوتي لأتفه سبب وكذلك والدتي، يذهب إلى رب العمل الذي أعمل عنده ويسحب راتبي، لم أستطع تحمله، وتشاجرنا فطردني خارج المنزل، منذ أكثر من سنة لم أعد إلى البيت، أعيش على الفتات، أنام في أي مكان أجده مناسباً، ولدي صديق طيب يعمل عند كراج بيروت، وعدني بالمساعدة وإيجاد عمل لأنني بصراحة لم أعد أطيق هذه الحالة المفروضة علي، كيف لشخص حصل على الشهادة الإعدادية بمجموع ممتاز، ولم يستطيع إكمال دراسته، وقد أنهيت الخدمة الإلزامية بامتياز وأنا مشرد كيف ذلك؟ الجواب عند أولياء النعمة».

هدفي في هذه الحياة

هو البقاء على قيد الحياة

زاهر 16سنة يعيش مع والدته بعد طلاقها وكذلك أخوه الأصغر 12سنة ولأنه تعرض للضرب والإهانة من زوج والدته قرر الهروب مع أخيه إلى والده، لكن والده لم يكن أكثر عطفا وكذلك زوجة أبيه، وانتهت الأمور به في الشارع، ليشارك وأخوه بقية المشردين النوم في الحدائق العامة وعلى الأرصفة يقول: «أعيش مشرداً منذ سنوات ولم أختر الهروب من البيت إلا بعدما تكسرت أضلعي فالجميع يضربونني وعلموني عادات سيئة لا يمكن للإنسان أن يتحملها مثل التدخين وغيره، والآن أعيش وحدي، صحيح أنني لا أملك المال وحتى الملابس، لكني أدبر نفسي، أخي أيضا يتعرض للأذى بشكل دائم، وبين الحين والآخر يعيش معي في هذه الحدائق، هدفي في هذه الحياة هو البقاء على قيد الحياة ولا أطمع في أكثر من ذلك».

علامات الكابل النحاسي

مطبوعة على كتفي

أحمد عمره 17عاما تعرض لجميع أنواع التعذيب على حد قوله والجروح والقطب المتعددة المنتشرة في جميع أنحاء جسمه تشهد له، يعيش مشرداً منذ أكثر من ثلاث سنوات، حلمه في هذا الحياة أن يصبح سائق تكسي يقول: «تجولت في جميع المحافظات لم أترك حديقة أو كراجاً يعتب علي، نمت في الشوارع وعلى الأرصفة، أكلت من بقايا الطعام في الحاويات، كل ذلك كي لا أعود إلى البيت، وأعاني ثانية مما كنت أعانيه على يد والدي فهو لم يترك أسلوباً للتعذيب إلا واتبعه معي، وعلامات الكابل النحاسي مطبوعة على كتفي كما تشاهد، لن أنسى عندما كنت أعمل عند حداد وعلى وشك أن أتعلم المصلحة، اشتريت دراجة هوائية وكسرها أبي فوق رأسي.

وهل هناك أب يضرب ولده بالسكين؟، في إحدى المرات عندما كنت أصطاد في البستان كانت عقوبتي هي الربط 24 ساعة على جذع شجرة. لا أخفي أنني حاولت الانتحار».

حاولت السفر إلى العراق كفدائي

مصطفى تعلم في المدرسة حتى الصف الثامن الإعدادي ثم بدأ رحلته الشاقة في هذه الحياة عمل في العديد من الأعمال الهامشية وفي النهاية استقر في ورشة تكييف تبريد وهي من المهن الجيدة يقول:

«منذ صغري كان والدي يفضل أحدنا على الأخر في المعاملة وتعرضنا جميعا للضرب والإهانة وإذا تعطلت ورشتنا يوما عن العمل، فمعنى ذلك الطرد من المنزل، وقالها بصراحة: «لا أطيق رؤيتك في المنزل»، أما راتبي من عملي فلم ألمسه يوماً، كان يأخذه ويضعه في جمعيات هو مشترك فيها، حينما غبت عن المنزل لم يسأل عني، اتصلت مع والدتي كي لا تقلق، وهكذا وجدت نفسي في هذا الوضع دون أن يسأل عني أحد متنقلا بين الحدائق، اقترب موعد الالتحاق بالخدمة العسكرية، حاولت السفر إلى العراق بصفة فدائي لكن محاولتي فشلت وذلك في بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، لو كانت أسرنا متماسكة ومتفاهمة لما وصلنا إلى هذا الحال التي تسمى التشرد لكنني أقول عمر الشقي باقي».

هددني بالمسدس

محمد: «كنت أرى والدي وهو يعاقب إخوتي بشدة وعندما ضرب أخي الصغير حاولت إيقافه كانت النتيجة رفسة وركلات ودحرجة على الدرج، أصبت بكسور ورضوض وهددني بالمسدس، فتركت المنزل وخلفت ورائي عملي في ورشة منجور عربي، اقضي معظم وقتي هنا في هذه الحديقة بين مجموعة من أصدقائي، عندما أجد عملا لا أرفض، وأحيانا أتنقل بين المحافظات مثل باقي أصدقائي، لو تصرف أهلي معي بشكل صحيح لما بقيت في الشارع لكن المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين».

جرني ثلاثة كيلومترات

عماد: «لنا آمال وطموحات، لكننا أصبحنا ضحايا هذا المجتمع الكاذب والفاسد، أسرنا التي لا حول لها ولا قوة لم تستطيع احتضاننا وبالتالي وجدنا أنفسنا في هذه الأماكن العامة التي أصبحت بالنسبة لنا كل شيء، لي سنوات مع التشرد، كيف أعود إلى أسرتي؟ والدي لم يترك صنفاً من التعذيب لم يجربه معي وكانت آخر هذه الصنوف ربطي بجنزير وجرني لثلاثة كيلومترات حتى أصبح عبرة لمن يعتبر والسبب لا أدري».

باسم: «اترك منزل أهلي بين الحين والآخر، وأجلس في هذه الحديقة كثيراً، منذ سنوات بدأت أهرب من البيت عندما كنت أرى والدي يحرق يد أخي الصغير بالكاوي، وعندما تعرضت للضرب والتهديد بالحرق، لم أعد أستطيع العودة.

لأنني صغير في السن تعرضت للعديد من التحرشات من قبل بعض الأشخاص كبار السن منهم، وفي هذه الحديقة قام أحد هؤلاء بمحاولة جري إلى مثل هذه الأشياء، صفعته على وجهه بقوة وهربت واختفيت عن الأنظار».

يتم جر الصغار عنوة

أبوحسن55سنة من رواد حديقة المرجة منذ أكثر من خمس وعشرين عاماً «ما يضايقني هو هذا الاختلاط الكبير بين المشردين الكبار في السن والصغار وبعض الشباب، فهنا يحاول الكبار استغلال حاجة الصغار للطعام والشراب والمأوى، هنا تكمن المصائب والضحايا في هذا المكان يومياً لا أحد يردع هؤلاء، يتم جر الصغار عنوة وأخذهم إلى أماكن غير معروفة وهناك بعض الخليجيين يأتون إلى هذه المنطقة تحديدا لمثل هذه الأمور التي تقشعر لها الأبدان ورأيتها بنفسي لمرات عدة».

الإجراء الرئيسي الموجود حالياً للتعامل مع هذا الوضع هو مراقبة المشردين في الشوارع والحدائق وعدم التدخل فيما يحصل وهو على ما يبدو إجراء فعال جداً، خاصة عندما نعلم أن بعضهم شكا للشرطة التحرشات التي يتعرضون لها فكان رد الفعل الوحيد هو «خليك بحالك».

واضح أن الحل الجذري يكمن في تحسين الأوضاع الاقتصادية لكن إعطاء الأولوية لهؤلاء في مواضيع فرص العمل والتعليم، يمكنه أن يساهم في تخفيف وطأة الحياة – الموت على هؤلاء الشبان الذين لم يروا متعة الحياة بعد بل فتحوا البرميل بالمقلوب (فظهر الخل بدل العسل).

■ تحقيق إبراهيم نمر

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
229