فساد وهدر بالملايين في معمل أسمنت عدرا المؤسسة العامة للأسمنت تستسهل الخصخصة أمام تطوير الإنتاج

تعد سورية من الدول الغنية بثرواتها الطبيعية، وتمتاز بتوفر المواد الأولية والخامات اللازمة لجميع الصناعات، وخاصة صناعة الأسمنت، حيث يتوفر الحجر الكلسي والبازلت والغضار والمارن والرمال السيليسية والجص، وتتوفر المادة الأساسية اللازمة لعملية حرق هذه المواد، وكذلك يتوفر الغاز الطبيعي الذي يفيد بصورة فعالة في أفران الأسمنت وتوليد الطاقة الكهربائية. وقد أظهرت الإحصائيات الأخيرة للمؤسسة العامة للأسمنت إنتاج أكثر من أربعة ملايين وتسعمائة ألف طن من الكلنكر لعام 2008، وبنسبة تحقيق 92% من الخطة الإنتاجية، وهذا يدل على وجود تطور واضح في صناعة الأسمنت في سورية، وخاصة بعد دخول معمل حماة حيز الإنتاج التجريبي عام 2008، والذي من المقرر أن تصل طاقته الإنتاجية إلى مليون طن في العام، مايعني أن الخطة السنوية للمؤسسة العامة للأسمنت ستصبح 5.8 ملايين طن بدلاً من 4.8 ملايين طن. وهذا سيقلص الفارق بين الإنتاج وحاجة السوق، وقد وصلت نسبة الإنتاج خلال النصف الأول من عام 2009 إلى نحو 110% من الخطة الإنتاجية، وذلك بإنتاج 655363 طن أسمنت من أصل المخطط 597400 طن، وكذلك إنتاج 585547 طن كلنكر من أصل المخطط 543400 طن، وبلغت نسبة التعبئة والتسليمات 674452 طناً من المخطط 597400 طن أي بنسبة تنفيذ 113 %.

وردت إلى «قاسيون» معلومات عن وجود آلات ومعدات مخزونة في مستودعات معمل أسمنت عدرا منذ عام 2004، وبعضها في ساحات وطرقات المعمل، وهذه الآلات هي موضوع عقد تطوير خط الإنتاج الثالث في المعمل، الذي تم إبرامه في بداية هذا العقد. وللوقوف على حقيقة الأمر قامت «قاسيون» بزيارة موقع المعمل. وكان لنا الاستطلاع التالي:
 
لمحة عن صناعة الأسمنت في سورية
أقيم أول مصنع للأسمنت في سورية في عام 1933، حيث أُنشئت شركة الأسمنت الوطنية قي دمر بالقرب من دمشق وتضم ثلاثة خطوط إنتاجية نصف رطبة، ذوات طاقات 210 ـ 280 - 350 طن كلنكر باليوم، وتمت إقامة خط إنتاجي آخر يعمل في عام 1954 ليصبح إجمالي عدد الخطوط الإنتاجية نصف الرطبة أربعة خطوط. وخلال الأعوام 1950 ـ 1965 توسعت صناعة الأسمنت بإقامة العديد من المعامل بالطريقة الرطبة وهي:

- معمل أسمنت الشيخ سعيد بحلب عام 1951، ويتألف من ثلاثة خطوط إنتاجية بطاقة 200 طن كلنكر باليوم لكل خط.
- معمل أسمنت الرستن بحمص عام 1958 ويتألف من خط إنتاجي واحد بطاقة 355 طن كلنكر باليوم.
- معمل أسمنت المسلمية بحلب عام 1960 ويتألف من خط إنتاجي واحد بطاقة 330 طن كلنكر باليوم.
- معمل أسمنت برج إسلام باللاذقية عام 1960 ويتألف من خط إنتاجي واحد بطاقة 225 طن كلنكر باليوم.
_ معمل أسمنت السورية بحماة عام 1966 ويتألف من خط إنتاجي واحد بطاقة 365 طن كلنكر باليوم.

ومازالت هذه المعامل قيد الإنتاج عدا معملي دمر بدمشق الذي توقف عن الإنتاج عام 1989 بسبب قدم معداته وعدم تحديث خطوط الإنتاج، وارتفاع تكاليف الإنتاج، ومعمل أسمنت برج إسلام باللاذقية الذي تم إغلاقه عام 1998لأسباب بيئية.
خلال فترة السبعينيات تطورت صناعة الأسمنت، باعتبار أنها عالية الجدوى الاقتصادية، وتؤدي لانتعاش حركة البناء، وزيادة الدخل القومي، وتتمتع بجميع عوامل النجاح، وأهمها توفر المواد الأولية في مواقع قريبة من المعامل، وكذلك توفر الطاقة وانخفاض قيمتها آنذاك، وكذلك اليد العاملة والموقع الجغرافي. ونتيجة لذلك فقد تمت إقامة المعامل التالية التي تعمل بالطريقة الجافة، إما كتوسعات للخطوط القائمة، أو معامل أسمنت جديدة:

- تزويد معمل أسمنت المسلمية بحلب في الأعوام 1976 – 1979، بخطين إنتاجيين بطاقة 800 طن كلنكر باليوم لكل خط.
- تزويد معمل أسمنت السورية بحماة في عام 1976 ويتألف بخط إنتاجي واحد بطاقة 800 طن كلنكر باليوم.
- إقامة معمل أسمنت عدرا بدمشق في الأعوام 1978 - 1983 ويتألف من ثلاثة خطوط إنتاجية بطاقة 800 طن كلنكر باليوم لكل خط.
- إنشاء معمل أسمنت العربية بحلب عام 1980 ويتألف من خطين إنتاجيين بطاقة 1500 طن كلنكر باليوم لكل خط.
- إنشاء معمل إسمنت طرطوس في الأعوام 1982/ 1983 ويتألف من أربعة خطوط إنتاجية بطاقة 1250 طن كلنكر باليوم لكل خط.
- إنشاء معمل أسمنت الإسكان العسكري بخط إنتاجي واحد بطاقة 1000 طن كلنكر باليوم.
وبذلك فقد بلغ إجمالي الطاقة الإنتاجية المتاحة لمصانع الأسمنت القائمة كافة، الرطبة والجافة، حوالي 5.3 مليون طن أسمنت سنوياً.
 
الواقع الحالي للأسمنت نظرياً
إن اتساع المساحة العمرانية، وخاصة العشوائية منها، وازدياد الحركة الصناعية في المدن الكبرى، بسبب الهجرة غير المضبوطة من الريف إلى المدينة، كل ذلك أدى إلى زيادة الحاجة لمادة الأسمنت، وبغية تلبية الطلب المتزايد عليها، فقد وضعت المؤسسة العامة للأسمنت ومواد البناء ثلاثة أهداف رئيسية وهي :
- تحسين الواقع الإنتاجي لخطوط الأسمنت القائمة، وزيادة الاستفادة من الطاقة الإنتاجية المتاحة لها،
- إعادة تأهيل وتطوير خطوط الأسمنت القائمة، بهدف زيادة طاقاتها الإنتاجية.
- إقامة خطوط ومعامل أسمنت جديدة.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف قررت المؤسسة العامة للأسمنت في أواخر تسعينيات القرن الماضي تطوير خطوط إنتاج شركاتها، بهدف زيادة طاقتها الإنتاجية، وتم البدء بخط الإنتاج الثالث في معمل أسمنت عدرا، كخطوة أولى تُعمَم فيما بعد على خطوط الإنتاج في المعامل الأخرى، إلا أن الفساد والهدر اللذين عملا عملهما بشكل فاحش، لم يؤديا إلى تعثر عملية التطوير فقط، بل أيضاً إلى ضرب المعمل ضربة قاضية، أدت إلى خسارته وإنهاكه، وصولاً إلى تعثر إنتاجه.
 
رائحة الفساد في العقود
في خطوة تدّعي دفع عجلة الإنتاج لتطويره وتحديث خط الإنتاج الثالث في شركة أسمنت عدرا، تمت في عام 2000 المراسلة بين الشركة وخمس شركات استشارية قدمت عروضها، وتم التعاقد مع شركة نمساوية، وتضمّن العقد خمس مراحل مستقلة عن بعضها للتطوير:

1 - دراسة تفصيلية لخط الإنتاج وتقديم مقترحات، مقابل أجر قدره 50 مليون ليرة سورية. وهنا نتساءل: مقابل ماذا؟!!
2 - تقديم دفاتر شروط جاهزة، للإعلان عن تأمين مستلزمات التطوير.
3 - دراسة العروض وتثبيتها.
4 - فك التجهيزات القديمة وتركيب الجديدة.
5 - تشغيل الخط وتحقيق الضمانات والإنتاجية المطلوبة.

على أن يتم إنجاز المراحل الخمس خلال 34 شهراً.
تم توقيع العقد عام 2000 والبدء مباشرة بالتنفيذ بعد فتح الاعتماد المالي المخصص لتطوير الخط الثالث برصيد قدره مليارل.س الآن، وبعد مرور حوالي ثلاثة أضعاف المدة المحددة لتنفيذ العقد، مازالت الشركة تتخبط وتتعثر في تنفيذه عند المرحلة الثالثة (إجراءات دراسة العروض وتثبيت العقود وتوريد الأجهزة)، وأُسنِد هذا التأخر للتعثر في الفترات الزمنية اللازمة لدراسة العروض، ومراسلة الشركات العارضة، وإعادة الإعلان للمرة الثانية وأحياناً للمرة الثالثة، إضافة للفترة اللازمة لتثبيت العقد بين الشركة والجهة العارضة، وإجراءات التصديق من الجهات الوصائية (المؤسسة العامة للأسمنت ووزارة الصناعة ورئاسة مجلس الوزراء) إضافة للتأخر في تأمين القطع الأجنبي وفتح الاعتماد المستندي.
جهات مطّلعة أخرى عزت هذا التأخير لوجود عقود تأخّر تصديقها من رئاسة مجلس الوزراء، كعقد الأتمتة (ربط الخط بأجهزة تحكم كهربائية) بانتظار الحصول على موافقة المجلس، بالإضافة لتأخر عقد تمت إحالته إلى الرقابة والتفتيش، وهو عقد الهركليون (تصفية غبار المبرد)، وقد أحيل إلى التفتيش كونه تم التعاقد بشكل مباشر بين شركة أسمنت عدرا مع الشركة المصنعة، دون إبراز وثائق تعرف بالشركة، وهذا مخالف للقانون من وجهة نظر الرقابة والتفتيش، ولم تتوفر معلومات تتعلق بموضوع العقد المحال للرقابة.
 
إهمال.. أم هدر متعمد
تم التعاقد واستقدمت الأدوات والتجهيزات والمعدات اللازمة لتطوير خط الإنتاج، ولكن مازالت هذه التجهيزات موجودة، في مستودعات الشركة منذ عام 2004 ولم تركب، وهذا يعني انقضاء أكثر من 4 سنوات من عمرها الافتراضي، كما أن شرط الشركة الموردة هو ضمان المعدات لحسن التشغيل سنة واحدة فقط من تاريخ توريدها، فهل تتحمل الشركة الموردة أعباء تأخير التركيب، خصوصاً أن المعدات والآلات تم تخزينها لوقت طويل، وقد تكون تعرضت للعوامل الجوية والصدأ وسوء التخزين، وهذا يفتح باباً واسعاً أمام الشركة الموردة للتبرير في حال حدوث خطأ ما، وبالتأكيد سوف تتنصل من ضمان ما بعد التشغيل، فإلى متى ستمتد مدة التخزين؟! وهل سيُفرَج عنها عندما يُطرَح المعمل للاستثمار، ليستفيد المستثمر من هذه الآلات على حساب الخزينة العامة؟!
وقد تكون الآلات والتجهيزات المستوردة، غير مطابقة للمواصفات المطلوبة، فقد حدثت في نهاية عام 2005 كارثة في معمل أسمنت عدرا عند محاولة تركيب كسارة الحجر الكلسي، التي تم التعاقد عليها مع شركة إسبانية، بقيمة سبعمائة ألف يورو، ولكن فوارق الأبعاد بين الكسارة المستوردة والقديمة أدى لتلف كبير في الكسارة الجديدة، ثم كانت هناك محاولات لتغيير مواقع الكسارة ليتمكنوا من التركيب، وتم تثقيب أماكن تثبيت جديدة، ولكن بشكل سيء، وأدّى اختلاف القياسات بين الكسارتين لحدوث كارثة حقيقية في المعمل، مرت وسط تجاهل تام من الجهات الرقابية والمسؤولين، ودون مساءلة أو محاسبة!!
 
حسابات البيدر مناقضة لحسابات الحقل
الخسائر الناتجة عن مشروع تطوير الخط الثالث في معمل أسمنت عدرا كبيرة جداً، فقد تم صرف مبالغ طائلة، دون أية فائدة أو مردود أو تنفيذ. وتقدر المبالغ التي صرفت حتى الآن على هذا المشروع (النائم)، بسبعمائة مليون ل.س، علماً أن هناك أراء فنية تشير إلى أن السعي لزيادة إنتاج الخط من 800 طن يومياً إلى 1100 طن، لايستدعي تخصيصه بمليار ل.س، بل يمكن الوصول لفرق الإنتاج بتطوير أساليب الإدارة والتشغيل، والمحاسبة والمراقبة. لذلك فما حدث هو هدر متعمد لكتلة اعتمادات مالية كانت أَولى أن تشكل رافداً حقيقياً لخزينة الدولة، لو أن خطة التطوير نُفِذَت كما يجب دون إهمال.
إن مدة التأخير التي زادت عن 50 شهراً، هي أطول من مدة التنفيذ المقترحة البالغة 34 شهراً، وكان من المقترح زيادة إنتاج الخط الثالث بمعدل 100000 طن سنوياً، وبحساب بسيط نجد أن كميات الأسمنت الضائعة خلال فترة التأخير تزيد عن خمسمائة ألف طن، وبما أن السعر الرسمي لطن الأسمنت هو 6000 ل.س، وكلفة إنتاجه وسطياً 2500 ل.س، فهذا يعني فوات ربح بمعدل 3500 ل.س عن كل طن أسمنت لم يُنتَج، وبالمجموع نجد أن الخسارة الناتجة عن توقيف مراحل تطوير الخط يزيد عن مليار وخمسمائة مليون ل.س، يضاف إليها هدر المبلغ المرصود للتطوير.
 
بانتظار التنفيذ والتطبيق..

أو التفتيش والتحقيق!!
تتردد معلومات في المعمل أن التركيب سيتم في الربع الرابع من العام 2009، وهناك آراء أخرى تقول إن سنة أخرى لن تكون كافية للبدء بالتركيب، فأي الشائعات سنصدق؟!
وبدأت تتردد في المعمل تساؤلات كثيرة حول توريد وتخزين الآلات، وبقاء الشركة على حالها دون تطوير! فهل هذا مخطط لإظهار عجزها أمام منافسة القطاع الخاص؟! ويبدو أن هناك من يتقنون هدر الزمن إضافة لهدر المال العام، وهذا ما يشير إليه التقصير في التنفيذ، الذي لاحظته الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش وبدأت تبحث عن أسبابه ومسببيه، عسى أن تقوم بخطوات عملية، قبل الوصول إلى طرح المعمل للخصخصة والاستثمار، وذلك بكشف الهدر والفساد ومحاسبة مرتكبيهما، وإعادة الأمور إلى مجراها الصحيح، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
410