المخترع المهندس معن كعدان: سأظل أعمل ولو في «زقاق الجن» * خَفضّت من فعالية الدولار من خمس إلى ست مرات!!
* لم تبق لي من ورشتي الصغيرة سوى دماغي الذي يعمل!!
معادلة الطاقة أو فلسفة الطاقة ـ كما يسميها معن كعدان ـ تقوم على مبدأ قد يبدو بسيطاً. فكل شيء يتحرك يولد طاقة. ومشكلة المهندس كعدان، كما مشكلة غيره من علماء هذا البلد لم تكن في هذا الجزء من المعادلة، بل في الجزء الآخر منها، والذي يقول «الذي لا يتحرك يمتص الطاقة»
فكعدان الذي يحارب جغرافيا النفط، ويحاور جغرافيا الرياح، ُيحَارب من عديمي الحركة الذين يساوون بين اختراع التوربينات المولدة للكهرباء واختراع «التواليت الإفرنجي» ودوماً، المعيار هو الدولار...
فصاحبنا الذي يطلق الكثير من الأفكار كما يطلق الكثير من الشتائم يسير في طريق الجنون كي يتحقق الرأي النفسي الذي يقول: إن العبقرية هي تعبير عن عقل مريض…
*هل كانت الرياح هي البداية؟
** في الصف الحادي عشر حاولت صنع آلة بخارية وقد تمكنت بعد ستة شهور من المحاولات أن أصمم آلة بخارية مصغرة ومختلفة في مبدئها عن كافة الآليات الموجودة في العالم، وقد عرضتها على أستاذي في المدرسة الذي كان مصمماً على أن مبدأ تلك الآلة خاطئ فيزيائياً، وكنت اكتفي بالقول «ولكنها تعمل»…
وقد قمت فيما بعد بعرضها في أحد المعارض فلم يلتف إليها أحد. وأنا عملياً لم أحصد شيئاً على الإطلاق من صنعها سوى قليل من الإعجاب الذي تلقيته من بعض أساتذتي في المدرسة، «إطلع دخن وروح عا البيت إيمتا ما بدي»..
النقود أيضاً تطير..
* لنتحدث قليلاً عن التوربينات الهوائية التي تصممها، كيف جذبتك الفكرة، أو بتعبير آخر، لماذا الهواء؟
** كثير من دول العالم المتقدمة استطاعت ترويض الرياح وتحويلها إلى دولارات. وقد استهوتني تجارب تلك الدول كثيراً، فكنت أتعامل مع الرياح وكأنها نقود طائرة يجب أن تضاف إلى خزينة بلدي. فبدأت أفكر بصناعة هذه الآلة التي كانت تمثل تحدياً كبيراً بالنسبة لي، فهي تكنولوجيا جديدة لا تدَرَّس في الجامعات حتى الآن، فحتى المهندسين الكبار الاختصاصيين لم يطلعوا تماماً على تجربة هذا الموضوع وقوانينه التي لا تتوفر في بلادنا.
في البداية بقيت نحو ثمانية أشهر أحاول الوصول إلى كتاب موجود في فرنسا يتعلق بهذا الموضوع، واستطعت الحصول عليه وتعلمت اللغة الفرنسية كي أترجمه بدقة، حاولت ترجمته من عام 1989 حتى عام 1992 إلى أن ترجمته أخيراً بالإضافة إلى كثير من الدراسات حول علوم «الآيروديناميك» وذلك دون أن أمارس أي عمل أخر، وقد كان صديقي «سومر شورى» هو من يصرف عليَ في تلك الفترة.
* ما هي التقنية الجديدة التي وصلت إليها في تصميم التوربينات الهوائية؟
** الرياح بحد ذاتها كتلة فيزيائية تشبه أي كتلة أخرى كالسائل والجسم الصلب، وهي ذات لزوجة معينة وكثافة معينة وتندفع بسرعة مختلفة، وقد تمت عبر العصور الاستفادة منها بأشكال متعددة. حيث تقوم الطاقة الحركية للرياح بتحريك أجنحة الطواحين القديمة مثلاً لتحول الحركة المستقيمة إلى حركة دورانية. ولكن هذه التقنية بشكلها البسيط القديم غير كافية لتصميم أجهزة توليد الطاقة الكهربائية إلا إذا استطعنا أن نمتص الطاقة التي تحملها الرياح بأكبر قدر ممكن، وهذا هو أهم جزء في التقنية المستخدمة، وهو تصميم وتصنيع الأجنحة، والتي لا تعتمد على الاستفادة من دفع الريح فقط وإنما أيضاً من فرق الضغط الذي ينشأ عند اختراق الرياح لجسم ذي شكل محدد يشبه شكل جناح الطائر أو حتى شكل جسم الدلفين.
العنفات والفلسفات
* هل اكتفيت بنقل التجربة الأوروبية وتوطين تلك التقنية، أم أن هناك ما هو جديد في تصميم تلك العنفات؟.
** لم تتح لي الفرصة لنقل تلك التجربة أو تقليدها، حتى فرصة التقليد مفقودة، إنما حاولت إعادة إنتاجها بشكل أخر مكثف، حتى وصلت إلى تقنيات جديدة خلال إثني عشر عاماً.
فالعنفة الريحية بحد ذاتها فلسفة، ولكل فلسفة زمن مناسب، وموقع مناسب، وشعب مناسب. وما ينطبق على الفلسفات ينطبق على العنفات. فالعنفات التي صممت لتعمل في شمال ألمانيا لا تناسب العمل في البادية السورية ولأسباب كثيرة، منها سرعات الرياح، ودرجات الحرارة، وطبيعة المستثمر والمستوى الصناعي للبلد، ومستوى دخل الفرد فيه. وهذه المعادلة متعددة المجاهيل، وقد استطعت إيجاد العنفة الفعالة والبسيطة والرخيصة، والتي يمكن تصنيعها بالكامل بخبرات ومواد محلية.
فإذا ما قارنا كميات الرياح المناسبة للاستثمار في توليد الطاقة، والتي تعبر سماء ألمانيا نجدها أقل من الرياح التي تعبر سماء سورية. والسؤال: لماذا تملك ألمانيا ثمانية آلاف ميغا واط من هذه المحطات الريحية، ولماذا لا تملك سورية سوى 150 كيلو واط من إنتاج مروحة واحدة مشتراة من الدانمارك؟
ثم كنت أسأل: هل لسورية من النفط ما يكفيها للأبد؟ هل سعر الكيلو واط الساعي الذي تبيعه الدولة للمستثمر يدر الربح على الدولة أم أنها تخسر في كل كيلو واط 2.5 ل.س؟ فلو تم استثمار هذه الطاقة الكبيرة، وتم توفير الوقود الأحفوري كمخزون استراتيجي، أو تم بيعه في الأسواق العالمية، لزاد الدخل القومي مليارات الليرات. فسورية التي يمر فوقها في كل ثانية كمية من الاستطاعة الكهربائية تعادل 40000 ميغا واط ـ في المناطق ذات الدرجة الأولى فقط بغض النظر عن المناطق الأخرى ـ تستطيع ان تنتج من الكهرباء أكثر مما تنتجه جميع محطات الكهرباء السورية وذلك باستخدام تلك التقنية.
الحرب على الدولار
* يبدو أن الحر ب التي بدأتها لم تكن على الرياح بل كانت حرباً على الدولار؟
** أجل، فلو أردت امتلاك عنفة (10 كيلو واط) أجنبية ستدفع ما يقارب 40000 دولار. أما ما حاولت عمله أنا فهو صناعة نظام مطور عن تلك العنفات وذلك بسعر سبعة آلاف دولار، وبالتالي خفضت فعالية الدولار في هذه التكنولوجيا من خمس إلى ست مرات ناهيك عن المشكلات البيئية التي ستواجهنا إذا لم نستخدم تلك التكنولوجيا. وللأسف لا أحد يعير أي اهتمام لكل ما يجري. مع العلم أن سورية تملك ما لا يقل عن 20000 ألف بئر في مواقع مناسبة جداً لطاقة الرياح وكل بئر يستهلك سنوياً بالحد الوسطي 200 برميل من المازوت، أي أن جميع الآبار تستهلك سنوياً أربعة ملايين برميل مازوت يمكن توفيرها وبيعها في السوق العالمية، وبافتراض بيع لتر المازوت بعشر ليرات سورية، فإن حصيلة ذلك هو حصول سورية على 880 مليون لتر مازوت أ يما يعادل قيمته في السوق الخارجية 8 مليارات و800 مليون ليرة سورية.
* تتحدث كثيراً عن عقبات تواجهك كما تواجه أصحابك من المبدعين. فمن الذي يضع العصا في العجلات؟
** الناس الذين يعملون في العلوم والتكنولوجيا ينغمسون في تلك العلوم وينسون حقوقهم المالية والمعيشية. وأصحاب رؤوس الأموال ينتظرون دائماً أن تقع الفريسة في المصيدة. فراس المال يستغل أي إنسان قد يدر عليه ربحاً، وبالنسبة لما حصل معي، فأنا بعد كل الجهود التي بذلتها في مجال الطاقات البديلة، والتي امتلكت الكثير من أسرارها، جاء من يحصد ثمرة كل تلك الجهود بشكل بشع وبكل بساطة.
فقد قمت بتصميم نماذج متعددة من أنظمة التحكم، والتي يمكن ـ أن نسميها أنظمة سورية ـ والتي تستطيع أن تولد الطاقة الكهربائية في جميع ظروف الطقس، وهاأنذا أبحث الآن عن «كابل» كهرباء لأشنق به نفسي!!..
البطاطا والتوربينات
* هل كانت المسألة تتعلق بالحقوق المالية، أم ثمة أموراً أخرى وجدت فيها استغلالاً لخبراتك وجهودك؟
** لم تكن المشكلة هي مشكلة حقوق مالية فقط. فرأس المال الذي لا يقيم اعتباراً لأي شيء إلا للمال، لا يهمه ما أقدم من تكنولوجيا جديدة إذا ما وجد تجارة أخرى تحقق له ربحاً أعلى، وإذا ما أحب أن يتاجر في التكنولوجيا، فلسبب بسيط هو أنها تحقق له بعض التباهي اكثر من التباهي الذي يمكن أن تحققه له تجارة البطاطا مثلاً.
فحتى في المحاضرات والندوات العلمية التي كنت ألقيها، كان اسم صاحب رأس المال هو الاسم الذي يكتب في الإعلان عن المحاضرة، وأما الذي كان يحاضر ويُسأل ويجيب فهو أنا، وبكل أسف لم أجد دعماً كافياً من أية جهة رسمية حتى الآن، إلا باستثناءات قليلة وبجهود شخصية من بعض الأشخاص الذين يغارون على سمعة بلدهم وعلى مصير مبدعيها.
* هل كانت مواصفات القطع التي تستخدمونها لتنفيذ التصاميم مطابقة لمواصفات الجودة؟
** من الناحية التطبيقية هناك عقبات كثيرة كانت تستهلك الكثير من وقتي. فالمواصفات الفنية لجميع المواد والمعادن التي نتعامل معها في السوق المحلية ليست مطابقة للمواصفات العالمية، فعندما نصمم محور دوران مثلاً نضطر لإجراء الكثير من الاختبارات على القطع والمعادن.. فلا نحن ولا المستورد نعلم مدى متانة هذه المادة وقدرتها على تحمل الإجهادات، وفي كل شهر تتبدل المواد المتوفرة في السوق وتتبدل مواصفاتها، وعلينا أن نعيد الاختبارات من جديد، وأنا أرى أن ذلك كله يتعلق بمسؤولية هيئة المواصفات والمقاييس، والتي ما كان عليها أن تسمح بعرض مادة معينة وتسويقها إلا بعد التأكد من مواصفاتها لكي نبني على ذلك الأساس صناعة سليمة.
* كيف ترى مصير تكنولوجيا الطاقات البديلة في بلدنا بوصفها مسألة تتعلق بالبعد الوطني أكثر من أي شيء أخر؟
** نحن لسنا دولة فقيرة، لكننا ومع الأسف شعب فقير، وهذه التكنولوجيا تخص الناس أكثر مما تخص أصحاب القصور الملكية. ففي إسرائيل مثلاً لا يوجد أي مصمم للعنفات الريحية وهي تستورد عنفاتها من ألمانيا. وبالرغم من ذلك فإنها تملك عشر عنفات استطاعة كل منها 500 كيلوواط وقد زادتهم عام 2001 بمقدار 2000 كيلوواط فأصبح الإجمالي 8 ميغا واط. بينما في سورية توجد مروحة واحدة أجنبية في القنيطرة باستطاعة 150 كيلوواط!!
فإذا لم تلق تلك الصناعة دعماً حقيقياً من الجهات الرسمية والقطاع العام فلا بد أن تنتهي للانتحار قبل أن أنتهي أنا له.
حجز على البيت والسيارة
* تحدثنا عن مصير الصناعة قبل أن نتحدث عن مصيرك كمبدع سوري. أين تجد نفسك الآن، وأنت مُحاصَر بكل تلك القيود التي ذكرت؟
** لقد تم استغلالي استغلالاً بشعاً فذلك المهندس الذي جمع خبراته خلال اثني عشر عاماً كي يضعها بين أيدي الناس، يجلس الآن وقد تم الحجز على بيته وسيارته.. فرأس المال جشع بما يكفي لأن ينزع كل أدوات الإنتاج من أيدي المبدعين، ليضيف إلى أمواله في الداخل والخارج نسبة مئوية ما، مهما صغرت، واليوم لم تبق لي من ورشتي الصغيرة سوى دماغي الذي يعمل رغم الخوف على مصيري وعلى مصير ابنتي…
وبعد أسبوعين سيقطعون الكهرباء عن منزلي إذا لم ادفع «الفاتورة» غير أنهم لن يستطيعوا قطع الكهرباء في ورشتي الدماغية وسأظل أعمل في هذا المجال ولو في «زقاق الجن»…
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 167