فرحان مرعي فرحان مرعي

عقلية التخاصم في الحزب الشيوعي السوري سماتها وخصائصها

إن المتتبع لتاريخ حالة الانقسام والتخاصم التي عانى منها الحزب الشيوعي السوري، في العقود الثلاثة الأخيرة، يلاحظ أن هذه العقلية تفعل فعلها باستمرار في شرذمة الحزب وتشظّيه وتحويله إلى فرق تتصارع فيما بينها أكثر من انشغالها بالوضع الداخلي، وظهر هذا التاريخ ساحة صراع بين الشيوعيين أنفسهم، ولم يدرس هذا التاريخ حتى الآن دراسة موضوعية نقدية، وغالباً ما قدمت تلك المسيرة التاريخية بشكل أحادي الجانب ،الشيء الذي سمح لعقلية التخاصم بالاستفحال، وإضعاف الحزب. .

 إن هذه العقلية لم تخلق من فراغ ولم تولد من عدم، إن لها تاريخاً طويلاً وعناصر ومقومات وبنية نفسية واجتماعية مهيئة لولادتها حتى أصبحت الذهنية التخاصمية نمطاً وسلوكاً طبيعياً يعيش بهدوء داخل الحزب وقوة قاهرة تمارس الإرهاب الفكري والسياسي ضد الرأي الآخر فيه، ويسعى إلى الظهور بمظهر الأقوى والمنتصر دائماً، ومالك للحقيقة، وهو يشرعن لكل إجراء يقوم به شرعنة إلهية ميتافيزقية من خلال تأليه الذات، والمؤتمرات والنصوص.
ووجدت هذه العقلية دائماً أن «فرقتهم» هي الناجية، وأن الفرق الأخرى مشركة ومرتدَّة ومنحرفة، وعلى أساس هذه النظرة الاستعلائية بررت لنفسها «الإمامة» ومدعية انتماءها النسَبي التعظيمي «آل البيت» إلى ما تعتبره الأصل في بناء تاريخ الحزب ليعلن بالمقابل زيف وتحريفية كل من يناقشها في مسألة القيادة «الإمامة».
وينظر هؤلاء إلى «فرقتهم» كمنقذين للفكر الماركسي وحفظه من كل تشويه ويتصورون أن الدماء الجارية في عروقهم هي دماء صافية، ماركسية لينينية ستالينية، وهذا يعني أن كل من يحاول التشكيك في حضورهم قيادياً يعتبر من المنحرفين والباعثين على الفتنة، ورموزاً لها وحتى يتطهروا من الانحراف والارتداد ما عليهم إلا أن يغطسوا في نهر الغانج العظيم؟!
إن ما تثيره هذه العقلية باستمرار وتنشغل به هو مفهوم الفتنة «المؤامرة» فهي المحرك الأساسي لصراعاته المختلفة ومغذياً رئيسياً لها، وهم يرددون دائماً مقولة (المؤامرة وفي هذا الوقت بالذات) فهناك دائماً عندهم الأوقات التأمرية.
وفي كل محطة من المحطات الأساسية من حياة الحزب تتهيج هذه العقلية وتطل برأسها ـ عندما تحس بأن مواقعها سوف تهتز وتترنح، وبسبب من سلوكها السياسي ـ مستخدمة الأسلحة التقليدية القديمة نفسها ومتذرعة بذرائع مختلفة من قبيل «التآمر على الحزب» أو محاولات البعض بـ «تحريف الماركسية» وغيرها وغيرها من التهم والحجج المعدة سلفاً، وتبدأ بعدها، عمليات الإبعاد والإلغاء والفصل واستئصال ما يسمونه تارة بالأورام اليمينية وتارة بأورام التيارات المتطرفة واليسارية أو الأورام التروتسكية، وهم يدَّعون أن هذه التصرفات هي «عمليات التطهير اللينينية المستمرة»، ولا يدركون أو يتجاهلون أن المعيار الثابت والأساسي للتمييز بين اليسار واليمين هو عدم القبول بأشكال الظلم والمعاناة والنضال من أجل إزالتها.
إن من سمات هذه العقلية التخاصمية والأصولية هو فرض التماثل والتفكير المعلب على أعضائه بحجة الحفاظ على سلامة الفكر والمسيرة، فلذلك فإن كل من لا يفكر كما فكر أسلافنا من ماركس ولينين وستالين فهو في خانة المنحرفين والمرتدين واللاماركسيين!!
لقد تعرض أعظم فراعنة مصر للسخرية مرة عندما وقف أمام نهر الفرات مندهشاً قائلاً: «إن هذا الماء يجري بشكل خاطئ» لأنه يجري من الشمال إلى الجنوب، وهو لا يعرف سوى نهر النيل الذي يجري من الجنوب إلى الشمال، ولم يدرك أن لكل من النهرين قوانينه الخاصة، وأن كليهما يجري بشكل صائب، وكما لا يدرك أصحابنا التخاصميون أن سلامة الفكر تأتي من التمايز والاختلاف والحركة، ومن الاستنباط والاستقراء، حسب معطيات الواقع الملموس ومن خلال قراءة التراث والفكر السابق لمعرفة الأسباب الحقيقية لحركة التاريخ، لا لتبني هذه الفكرة أو تلك.
ولأن عقلية التخاصم في الحزب الشيوعي السوري هي عقلية تسلطية وسلطوية فهي ضد عقلية التمايز، والتوحد مع التمايز، لأنها تجد في التمايز خطراً عليها وتهديداً لمواقعها في السلطة، فلذلك تلجأ إلى القهر والتصفية والإرهاب ضد الآخرين من موقع عدم التجاوب والتوافق مع مسلكها العملي والنظري، وإلى استخدام كافة الوسائل الممكنة التي تذم الخصم وتأليب العامة عليه إعلامياً بوصفه محرضاً للفتنة، وتلجأ أيضاً إلى سياسة الإلغاء والإبقاء، إلغاء الرأي الأخر «الخصم المفترض» والإبقاء على نفسها أكثر في رحاب السلطة، والسعي إلى الاحتفاظ بها، وهذا لا يتم إلا بمزيد من القمع والإكراه.
إن مثل هذه العقلية التصفوية والتخاصمية تبحث دائماً عما تعتاش به، مواضيع وأعداء مفترضين أو وهميين يعششون في مخيلاتهم المريضة والمتورمة سرطانياً، وما أن ينتهوا من موضوع وعدو وهمي، حتى يفكروا بخصم آخر، إنهم لا يتميزون فقط بالقدرة على تعيين الآخر المناوئ لهم من داخلها، ومن الواقع المعاش وإنما يتميزون بما هو أدهى وأفظع وهو القدرة على ابتكار الخصوم وتوتير الواقع وتوجيه الأنظار إلى قضايا ثانوية.
إن عقلية التخاصم، ظاهرة تاريخية واقعية، تحمل في بنيتها قوة الهدم والتخريب، ومتهيئة دائماً للانقسام والتفكك من أجل تحصين نفسها والإبقاء على مصالحها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
167