سوق الحرامية في شارع الثورة

تشتهر مدينة دمشق بأسواقها المنتشرة في كل مكان، وفي دائرة لا يتجاوز قطرها 200متر في شارع الثورة سوق يسمى سوق الحرامية وهكذا درجت التسمية منذ عشرات السنين وهنا الجميع يشتري ويبيع وأصوات الباعة تتعالى ولا يخلو الأمر من بعض المضاربات بالسعر وبعض المشاجرات التي غالبا ما تكون من افتعال الشرطة أو بعض الجهات الأخرى المدعومة   وبين الحين والآخر يفتتحون مزادا لبعض الأشياء.

أحيانا تكون رخيصة جدا كساعة حائط مثلا الهدف منها طبعا إنعاش السوق وتحريك البيع، وتجد في هذا السوق الصغير تجمعا كبيرا من أبناء مدينة دمشق وريفها وكذلك العديد من الأشخاص من بعض الدول العربية كالأردن والعراق ومصر والسودان والجزائر وغيرها، وجدوا في هذا السوق ملاذا لهم والجميع همهم واحد البحث عن لقمة العيش لا سواها وعدد كبير من هؤلاء من حاملي الشهادات العلمية وموظفين متقاعدين وعساكر وغيرهم والجميع يفترشون الأرض جنبا إلى جنب طلبا للرزق وكل شبر من الأرض مسعر من قبل الشرطة وبشهادة الجميع تتراوح تسعيرة المتر بين 25-50 ليرة سورية وقد تصل إلى 200 ليرة سورية بالنسبة للبسطات الكبيرة.

رشوة بشكل يومي

للعلم بأن هذه التسعيرة للأرض والشارع والرصيف وللمال العام وضعتها بعض الجهات وتقبض ثمنها كرشوة وبشكل يومي وعلى عينك يا تاجر.

سليم أب لأربعة أطفال جاء من أقصى شمال شرق سورية من الجزيرة السورية محافظة الخير والعطاء يعمل في هذا السوق منذ خمسة أعوام متعلم، يعمل منذ الفجر وحتى وقت متأخر من الليل يقول: «قطعت مئات الكيلومترات للعمل في دمشق فوجدت نفسي في هذا السوق ومنذ أكثر من خمس سنوات والحال كما هو بل لم أعد أرى أطفالي ولو كنت وجدت بصيصا من الأمل في العيش في قريتي الفقيرة لما بقيت في هذا السوق يوما واحدا و كما ترى هذه البسطة التي لا تتجاوز نصف متر مربع تكلفني مبلغ 25 ليرة سورية يوميا وهي لبعض الجهات التي تشاركنا لقمتنا الصغيرة أصلا وكأنني من تجار الحمراء والصالحية».

أبو محمد مقعد على كرسيه المتحرك وهو الملقب بملك الموبايلات يصيد كل من يدخل السوق لبيع جهازه القديم لديه أجهزة لا تجدها في أسواق دبي يقول: «لدي كل أنواع الأجهزة وبنصف السعر وكله مال حلال والحمد لله وهنا تم مصادرة العديد من الأجهزة من قبل الشرطة وبعض الناس أخذت أجهزتهم وصودرت منهم تحت حجة المتاجرة».

كبسة ومداهمة

يقول صاحب محل ألبسة: «منذ فترة تم ابتزاز أحد الأشخاص وتمت مصادرة جهازه الموبايل وبعد تعرضه للعديد من اللكمات أعيد له الجهاز بعد دفع مبلغ 500 ليرة سورية رشوة مع العلم أن هذا الشخص كان عابر سبيل وليس تاجرا في السوق وكل كبسة ومداهمة لهذا السوق ندفع ثمنها نحن أصحاب هذه المحلات وسعرنا بسعر غيرنا في دفع المعلوم ماعدا الضريبة السنوية عن محلاتنا».

أين تذهب عشرات الآلاف التي يتم جبايتها بطريقة فرض الأتاوات على هؤلاء الباعة الفقراء من يطالب بها؟ الخزينة ؟ أم وزارة المالية ؟ والسؤال لماذا لا يتم تنظيم هذا السوق بشكل أفضل وتحت رقابة الدولة لوقف الابتزاز اليومي للمواطنين أم هي متروكة هكذا لغاية في نفس يعقوب؟. 

ريثما يأتي الفرج

وسيم «أنا عراقي الجنسية وأعمل في هذا السوق منذ أشهر بعد الاحتلال الأمريكي لبلدي وكما ترى أبيع هذه النظارات وأحيانا يصل دخلي الشهري إلى 5000 ليرة سورية وأحيانا أودع نهاري دون قرش واحد ومطلوب مني مساعدة أهلي ودفع الآجار والمعيشة اليومية ولأنني غريب الجميع هنا يحترمونني فأنا في الحقيقة مهندس كهربائي ولا يحق لي العمل مع الجهات الرسمية، وحتى الخاصة لا تقبلني فالحل الوحيد كان هذا السوق ريثما يأتي الفرج».

السوريون يجمعهم وحدة حال على لقمة العيش.وفي سوق الحرامية الجميع يسترزق في المبيع والشراء ورغم نفور البعض من تسمية السوق بسوق الحرامية إلا أنه يتردد يوميا لبيع وشراء بعض الألبسة القديمة والأغراض المنزلية.

لم استطيع تحقيق حلمي

 يقول محمد: «لم استطع استكمال الدراسة في كلية الطب لأنها مكلفة وتركت الكلية والدراسة وأعمل في هذا السوق منذ عدة سنوات مع الاحتفاظ بلقبي فالجميع ينادونني دكتور صحيح تحسرت لأنني لم استطيع تحقيق حلمي بأن أصبح طبيبا لكن هذه هي الحياة وما كل ما يتمنى المرء يدركه وكما ترى جرت الرياح بما لا تشتهي سفني».

هذا السوق الذي عمره عشرات السنين يعمل به أيضاً أبناء مدينة دمشق وريفها، فمن حرم من فرصة عمل مناسبة وجد هذا السوق ملاذاً له لأنه لا يحتاج إلى شهادات خبرة خمس نجوم والجميع متساوون أمام الشرطة وهناك العديد من أبناء محافظة دمشق يعملون في بيع وشراء الأغراض القديمة والحديثة.

 وقصة أبو محمد طويلة تمتد إلى خمسين عاما من العمل في هذا السوق، أكثر من نصف قرن، ورغم بلوغه السبعين لازال يجلس أمام بسطته المتواضعة، تحدث أبو محمد بنبرة حزينة يتحسر على مستقبله الذي كان من الممكن أن يكون أفضل بكثير لكن كما يقول شاءت الأقدار أن يمضي عمره في هذا السوق. 

رباع

«أنا جئت من منطقة التل وعملت في هذا السوق وعمري خمسة عشر عاماً، وتزوجت ولدي خمسة أولاد لم يكملوا تعليمهم، والجميع يعملون في المهن الحرة، ولولا الفقر والحاجة لكنت أصبحت رباعاً على مستوى سورية، لأنني كنت متابعا جيدا للرياضة لكن ضغط الحياة والحاجة دفعني إلى هذا السوق وهنا الجميع يعرفون قصتي مع الشرطة فهم يوميا يسيئون للباعة والناس في هذا السوق، وحتى عابر السبيل يمكن أن يتعرض للإهانة من قبل هؤلاء وعندما حاولوا الإساءة لي وإهانتي تصديت لهم وتم حجزي ووضعي في سيارة عابرة كأن الدولة لا تملك سيارة لمثل هذه الحالة، وعندما اعترضت تم وضعي بالإكراه ولم تحل المشكلة إلا في القسم، وكان ابني قد اتصل بأحد الأشخاص وتم إخلاء سبيلي ومنذ ذاك الحين أنا معفي من ضريبة الغصب لهذه الجهات».

غوانتانامو

وقامت محافظة دمشق ببناء سور لعزل السوق عن منطقة المشاة والسيارات للتخفيف من الاختناقات المرورية لكن ما حصل هو أن هذا السور الذي يشبه قفص غوانتانامو قد تحول إلى مركز لرمي القمامة من أمتعة وأغراض قديمة غير قابلة للاستعمال وكذلك بقايا الخضار والفواكه الفاسدة المنتهية الصلاحية عند آخر المساء ، وهو من جهة أخرى مأوى لبعض المشردين، وفي النهاية لم يخدم هذا السور سوى من قام ببنائه .

يقول أبو العبد: «بعد طول مناقشات توصل جهابذة المحافظة لهذا الحل المخجل، هل يعقل أن نجلس وراء هذا السور الذي بني على ما يبدو لفك زنقة أحدهم من الأموال العامة نحن هنا في قلب السوق وأحيانا كثيرة لا نشم رائحة القرش فكيف سنعمل داخل هذا القفص الحديدي الضيق ولأننا خارج السور الجميع يتحكم برزقنا والويل الذي لا يدفع المعلوم للجهات الكثيرة المسيطرة على لقمة العباد في هذا السوق». 

متقاعدون كثر يعملون في هذا السوق بحثا عن الرزق وهل يعقل من عمل أغلى سنوات عمره في خدمة الدولة سواء في الجيش أو أي وظيفة حكومية أخرى أو طيارا أن يكون مصيره في سوق الحرامية بائعا جوالا منذ الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من الليل، انه حال الكثير من أبناء بلدنا الذين يرعون أسراً كبيرة لا يكفيهم الراتب التقاعدي سوى أيام معدودة، والجميع يؤكدون لولا إخلاصهم وأياديهم النظيفة لما كانت هذه نهايتهم.

المعلم المفروز للسوق

 يقول محسن: «راتبي التقاعدي لا يكفي لسداد فاتورة كهرباء واحدة من أين آكل؟ أنا مجبر على العمل في هذا السوق ولا بديل لدي و أعتقد بأن الدولة قادرة على إيجاد الحلول المناسبة لأوضاعنا المعاشية إذا توفرت النيات الصادقة لديها لأن مواردنا كبيرة وكثيرة وكافية لإطعام الجميع وعندها لن تجد أحداً يعمل في هذا السوق و أؤكد لك أن هذا المكان سيصبح فارغا من الباعة لأننا في هذا السوق نعمل ونشقى ونتعب ولسنا هنا من باب الترف كما يعتقد البعض».

افتعال المشاكل من قبل بعض الجهات، ابتزاز متواصل للعاملين في هذا السوق، وبين الحين والأخر يتجمهر الناس وتجد فورا أحد طرفي المشكلة من رجال الشرطة وهنا تسعيرة العلقة تختلف أما أن تدفع شندي وعلى الحارك وأما أن تواجه مصيرك في التوقيف والبهدلة في القسم وهناك النتيجة معروفة سلفا والخيار الأول هو الغالب وأحيانا يتحول السوق إلى شبه خراب وذلك عندما يكون مزاج «المعلم» المفروز للسوق سيئا وهنا تكون البسطات معرضة للتلف والسرقة والمصادرة.

لماذا لا تقوم الدولة بدورها

كما حصل مع السيد أيمن: «الذي يقول نشاهد مثل هذه الممارسات يوميا مداهمات وتوقيف حتى لبعض المارة وأغراضنا تتبعثر هنا وهناك ننتظر خروجهم من السوق ومن ثم نباشر البيع ثانية بعد أن تهدأ الأحوال».

إن ترك سوق الحرامية على حاله منذ عقود بهذه الطريقة وتعامل الجهات الرسمية معه بهذا الشكل ليس عبثا والسؤال لمصلحة من هذا الاستمرار؟.

لماذا لا تقوم الدولة بدورها في تنظيم هذا السوق سواء في مكانه أو نقله إلى مكان آخر مناسب؟.

 لماذا تذهب الأموال التي يتم جبايتها عنوة من المواطنين الفقراء إلى جيوب شلة من الفاسدين والمفسدين لماذا السكوت على هؤلاء؟.

عشرات الآلاف من الليرات السورية يوميا تذهب هدرا لجيوب بعض المرتزقة وكأن شيئا لم يكن وهؤلاء الفقراء في حيرة من أمرهم إذا رفضوا الدفع لهذه الجهات المدعومة يطردون إلى خارج السوق وبالتالي السكوت هو سيد الموقف تجنبا لشر هذه الجهات وغضبهم علماً أنه في جميع دول العالم توجد الأسواق التي تبيع الأغراض المستعملة لكن ليس كما في سوق الحرامية في دمشق وكما أن الشرطة ليسوا شركاء في اللقمة.

■ إبراهيم نمر

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
226