علامات في السلة!
أجبرتنا السياسة التعليمية خلال العقود الماضية على إتقان الخوف والرهبة عند كل امتحان، والجميع يبحثون عن أساليب التخويف، شرطي المرور يخافه السائقون، موظف التموين يخافه البائعون، ورجل الجمارك يخشاه المهربون، والمخبرون يتجنب العقلاء أقلامهم السوداء وافتراءاتهم الموحشة، ووزارة التربية تحتار كيف تدخل الخوف إلى قلوب الطلاب. هي نجحت ولاشك في ذلك، ولكنها لم تنجح في خلق متعلمين مبدعين، طلبة يجمعون العلامات عوضاً عن جمع التقانة، وهم في مصيرهم كمن يجمع المال ويكدسه في صناديق مغلقة تتآكل مع الأيام دون أن تضيف للاقتصاد شيئاً.
العلامات صارت كالعملة الورقية لا رصيد لها ولا تشتري شيئاً؟
يقول الأرجنتينيون: كنا نذهب إلى السوق نأخذ النقود في الجزدان ونضع ما نشتريه في السلة، الآن صرنا نأخذ النقود في السلة ونضع ما نشتريه في الجزدان! وحال طلبتنا كحال الأرجنتينيين (ونحن أقرباؤهم فيما يعانون) يملأون السلة بالعلامات ويقفون على الأرصفة يبيعون جهدهم كالنازحين من الأرياف صباحاً يبيعون التين والكشك على أرصفة المدينة.
وفي كل عام تتحفنا وزارة التربية بقرارات جديدة هي أقرب إلى التجريب، وكأن الطلبة (فئران) في مخابر الوزارة. هذا العام أقرت الوزارة احتساب علامات الصف العاشر والحادي عشر والفصل الأول والفصل الثاني من الثالث الثانوي. وينص القرار على احتساب علامات الشهادة الثانوية من مجموع علامات المرحلة الثانوية بأكملها، وتحتسب على الشكل التالي:
5 % من معدل العاشر و5 % من معدل الحادي عشر و 5 % من معدل أعمال الطالب في الفصل الأول للثالث الثانوي و 10 % من معدل امتحان الفصل الأول للثالث الثانوي أيضاً و 5 % من معدل أعمال الطالب في الفصل الثاني للصف المذكور، إنها متاهة من علامات كثيرة.
هذا القرار كان إشاعة، والآن صار واقعاً، ومن المؤكد أنه لا يمكن وصفه إلا بالحماقة، وذلك لأن المدارس بواقعها الحالي لا تتصف بالنزاهة (وهذا أمر مؤسف) فيما تسجله من علامات، لأن العاملين في هذه المدارس (وهم إخوتنا) سيمنحون أولادهم وأقربائهم وأبناء المتنفذين هذه النسب من العلامات دون أي استحقاق، وطلبتنا لن يتورعوا في تعلم الغش ليكسبوا هذه الـ 5% طالما أنها ستجمع مع علامات البكالوريا.
إنهم يتعلمون السرقة في وقت مبكر والمصيبة أكبر عندما ستسند إليهم المهام الوظيفية بعد سنوات، لصوص محترفون ينتشرون في كل مكان.
وأي امتحان أو مذاكرة لطلبة يحشرون في صف يضم أكثر من 40 طالباً!! وأية نزاهة هذه لثلاثة طلاب يجلسون في مقعد واحد! نقولها بصراحة لن تستطيع شرطة العالم من منعهم من النقل والغش.
والمستفيد من هذا القرار أولئك الذين يدفعون للدروس الخصوصية، أما من لا حول ولا قوة له فعليه أن يتدرب على الصبر والسكوت. الوقت مازال مبكراً للرجوع عن هذا القرار، والعودة عن الخطأ فضيلة.
الحقيقة مبكية أيها السادة، ليس لدينا الآن سوى الحناجر، فكيف السبيل إلى من يعيد الرجاء إلينا؟
■ مفيد حداد