الإعلام السوري.. أسئلة أكثر إلحاحاً (1 من 2)
«لقد جعلت له مونيتور قلب حكومتي وقوتها ، وكذلك وسيطي لدى الرأي العام في الداخل والخارج معاً... وكانت الصحيفة كلمة الأم لأنصار الحكومة» .
■■ نابليون بونابرت
قد لا يشكل الحديث عن بؤس حال الإعلام السوري مفاجأة على كثيرين، لاعتبارات شتى، لأننا كثيرا ما نكون في مثل هذا المقام أمام إعلام مستنسخ تماماً، فما يصلنا عبر الإعلام المقروء مثلاً إنما يتصادى ببغاوياً في الإعلام المسموع والمرئي على نحو سواء..!!
ولعل الحديث عن قائمة الممنوعات في هذا الإعلام، يعد من نافل القول، فهو معروف من قبل أي متابعٍ ، أو قارئٍ له، حيث أن هناك على الدوام مناطق ألغام ينبغي عدم الاقتراب منها البتة..!!
ولقد كان من الممكن تماماً أن تتراوح هذه المنطقة الملغمة ضمن حدودٍ دنيا، ليتمكن الإعلامي - النـزيه - من ملامسة قضايا أخرى، مهمة بالنسبة للمواطن والوطن - على حد سواء - فيما يتعلق براحته وأمنه، ولقمته، ومستقبله، وحريته، بل وكرامته... قبل كل ذلك، إلا أن هذه الحدود - وكما هو واقع الحال - بدأت تتناسل، وبذلك فان هناك مناطق محرمة، صارت تشكل متتالياتٍ، لا نهاية لها، قد تبدأ بوزير أو واحد من المقامات العالية وتنتهي ليس برئيس المخفر، بل بأي مخبرٍ قريب من المخفر أو سواه، إذ لكل منهم إمبراطوريته، وحدوده التي تستمد قدسيتها من الرمز الأول، وهي بالتالي عالة عليه، ومسيئة إلى أي منجزٍ قد يعتد به..!
الداخل والخارج حدث واحد وسياستان إعلاميتان:
ربما يتبادر للذهن، أن تقدمة كهذه، تبدو متجنية، عمومية، في بعض إشاراتها، وجحوداً بحق الواقع الإعلامي، إلا أن أية قراءة متأنية لردود الفعل العكسية التي خلقها مثل هذا الإعلام: داخلياً بالنسبة إلى علاقة القارئ به، وخارجياً بما يتعلق بمصداقيته، وما يقدمه من معلومة، مكرورة، باهتة - في الأغلب، وما يخفيه من معلومات مهمة، مطلوبة.. وبإلحاح، تنعكس مع القنوات الإعلامية الأخرى، وعلى مدى نجاعتها في آنٍ واحد .. لدرجة، انه وبإمعان النظر في مصادر المعلومات الخارجية، فان هناك ما يؤكد لنا أن هناك تسريبات - مدروسة - للمعلومات المقدمة للإعلام العربي ، وبالتالي الغربي!! والتي تحجب عن الإعلام المحلي، بيد انها تعود عبر دورة - طويلة - باهتة منهكة، إلى القارئ المحلي نفسه لا سيما في مرحلة الانتشار الهائل لوسائل الطباعة والمعلوماتية، وهذا يعني قبل كل شيء:
1- تنشيط الإعلام المحلي، والاستخفاف بالقارئ، وهنا مساس بمسألة وطنية وحق مواطن، لأن دور الإعلام ليبرالياً في أقل تقدير - هو أولا وأخيرا من أجل مصلحة ومعرفة وحماية المواطن.
2- اضطرار القارئ الى التفكير بإيجاد قنوات لمصادر المعلومة على حساب علاقته بوسائل الإعلام المحلي.
أن ما تقدم، يشكل أسئلة أولى - بالتأكيد - توحي لأول وهلة بأن هناك - مؤامرة - على الإعلام المحلي بداعي تحصينه والحرص عليه، وقد لا أجد صعوبة في الإشارة إلى أمثلة كثيرة منها: اننا كنا نضطر لتصوير مقال ما منشور في صحيفة عربية، قُرئت عربياً، وعالمياً وحجبت عن مواطننا، مع أنها مرسلة من مصدر رسمي، أو مطلع.. وهذا ما كان يكلفنا أحياناً دفع - أضعاف - سعر نسخة هذه الجريدة، أو المجلة، التي اقتطع منها الخبر وهو عموماً على حساب لقمة الخبز.. !! والأنكى من ذلك إلى مثل هذه المواد المستنسخة فوتوكوبياً، كانت ولا تزال تنشر في البلاد طولاً وعرضا، عمودياً وأفقياً، يقرؤها، ويطلب الحصول عليها حتى المواطن عديم الاهتمام بالإعلام.
تجربة الإعلام الصحافي:
أجل، ان مثل هذه الممارسة، هي من عثرات السياسة الإعلامية المتبعة، لأن القارئ في هذا الحال هو الضحية الأولى، حيث يصل إليه السم والدسم، والغث والثمين، الملفق والصحيح، كله في آن واحد.
بل ويتم نسف يقينياته، ويخلخل حتى إيمانه بقيم عالية، وبتصوري الشخصي - ان لا مبالاة الشارع العراقي، كاملاً - بسقوط بغداد - حيث بدا وكانه أمام فلم سينمائي لا يهمه، كانت تعود في جزء مهم منها إلى انعكاسات الإعلام الصحافي بتشديد الصاد والحاء على التوالي - التضليلي، الذي عمل على أسس كثيرة منها:
1- غض الطرف عن المحاسبة الحقيقية، وتفسير النقد على أنه موجه للمخطئين الصغار مستضعفي أرض الله - دون غيرهم - وان كانوا مشاريع جبابرة ؟ أفسدهم الواقع على نحو طبيعي نتيجة جملة علاقاته الخاطئة.
2- توريم صورة - الطاغية - وإشباع نرجسيته لتبلغ حد البارانويا الوحشية، والسادية الدموية الحمقاء، كي نكون في ما بعد أمام متتالية لا نهاية لها من الطغاة الصغار، ولنكون بالتالي أمام اعدام اعلام اواعلام اعدام.
3- تخريب روح المواطن، وهدمها، ونسف منظومة القيم العليا، بخصوص حب الوطن، والاستبسال من أجله.
وأكاد لا أنسى البتة، ذلك الموقف المحرج لمحمد سعيد الصحاف - وزير الإعلام العراقي - الذي كان يقود «بمفرده» حرباً ضروساً على قوى التحالف الغربي، عندما كان يفند أكاذيب العلوج، بدخولهم بغداد، فقال له صحافي وقح متسائلاً «بخبث: ولكن ألا ترى معنا.. هي ذي الدبابات الغازية على مرمى البصر والمكان!! مؤكد أن المواطن العراقي، كان يدرك ببصيرته - وبصره معا، واقع الحال، ولهذا فان هذا التحميس الستيني لم يحرك شعرة من رأسه» وهذا ما كان يدعو، وعلى الرغم من الموقف المحرج جدا، انصراف المواطن العراقي، عن هذه القناة التلفزيونية الأخيرة، أو متابعتها كأنها - مسرحية مونودرامية صحافية - لمحض الترويح عن الخطر الذي يدخل عليه دون استئذان?!
بوصلة الفساد:
وطبيعي ألا يجد أحد المكتوين بحب - صاحبة الجلالة - مثل هذا الأنموذج يومياً في أقسام تحرير صحفنا، بل ومجلاتنا وتلفزيوننا على حد سواء، فهم استقدموا إلى عالم هذه المهنة، ليس نتيجة هيام ما بالعمل الصحافي، هذا العمل الذي لايقدم للصحافي الأصيل سوى المتاعب، بيد أنه يستخدم لدى أشباه الصحافيين مفتاحاً سحرياً لولوج المكاتب المغلقة، بل عصا موسى تحقق كل ما يخطر ببال لدى بعضهم، ومن هنا نجد هؤلاء الذين انتفعوا في هذا العالم، واساؤوا إليه، ولقد كتبت في الثمانينات والتسعينات - مرة في مجلة هنا دمشق وأخرى في الناقد ما معناه: ان أختام الدوائر الرسمية وغير الرسمية لا يمكن لها أن تصنع موهبة: أديباً أو صحافياً مبدعاً لامعاً.
ان العمل الإعلامي، يستغل على أيدي بعضهم من أجل أغراض ذاتية، ضيقة، مرذولة، ومن هنا فاننا نجد هؤلاء المندوبين الإعلاميين الذين يقدمون بين فينة وأخرى، إلى إحدى المحافظات البعيدة، قلما ينصرف أحدهم إلى مهمته ليجري تغطية إعلامية يشار إليها بالبنان، بل أن كثيرين منهم ليظن أنه في رحلة العمر، حيث يعيش أياماً على موائد عامرة، وإقامة متميزة في فندق ذي بضعة «نجوم»، في ضيافة مدير تلك الدائرة الحكومية التي طلب إليه إجراء تحقيق صحافي حول عملها،!! وطبيعي ألا يستطيع هذا الصحافي المخلص كتابة الواقع، لأنه سيجري ريبورتاجه هذا اعتماداً على معلومات حاشية المدير، ليكون كل شيء في بلدنا بخير!! وهناك مقولة طريفة لمدير سابق لفرع مؤسسة الحبوب في منطقتنا هو: احذروا في هذه المؤسسة من شيئين: النار والصحافة!!
ولقد قيل لي أن عاملين في الصحافة، كانت تصرف لهم «مكافآت» من مؤسسة لا علاقة لهم بها، ولا أدري لم أجد في نفسي رغبة في أن أتحدث عن مدير مركز إذاعي وتلفزيوني، جاء من أجل تغطية أحد المهرجانات الشعرية، وكنا حوالي عشرين شاعرا، وكانت المناسبة «دعماً للانتفاضة الفلسطينية» وبدا لنا هذا الإعلامي وكأنه قادم من كوكب المريخ، صار يجري - بروفات - لصبية من المدينة كي تلعب دور المذيعة!! وراح يجري لقاء مع مدير الدائرة المضيفة ويقدم فقرة كاذبة عن كاتب ليس في المدينة كلها على انه موجود!، ويصور «معرض كتب للقطاع الخاص» ولأن أحدا لم يكن موجوداً في قاعة المعرض، حيث كان الدوام المسائي قد انتهى، صار صاحبنا ينادي الشعراء المشاركين واحداً.. واحدًا، وكانوا المحظوظين الذين تم اختيارهم ليمثلوا بأنهم «مواطنون» يشترون الكتب، لا أن يتحدثوا عن واقع الشعر الجديد وسوى ذلك مما توقعوه من قضايا الفن والثقافة، لكن أكثر هؤلاء رفض هذه التمثيلية الرخيصة، البائخة، وعلمت أنه راح يتحدث عن انتصاراته بحق هؤلاء الشعراء في سهرة دسمة و«نكات مكرورة» في ضيافة مدير الدائرة نفسه.
■ ابراهيم اليوسف