سياسات التسويق الزراعي في سورية

لمصلحة من تخلت الحكومات المتعاقبة، وخصوصاً بعد النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، عن السياسات الزراعية التي اتبعت في بداية التسعينات من القرن نفسه، والتي أدت إلى زيادات كبيرة في الإنتاج الزراعي (الشق النباتي)، وقد أدت تلك السياسات المذكورة إلى الانتقال من عهد الندرة إلى عهد الوفرة، في الإنتاج الزراعي كما كان يعبر عنه رسمياً.

وقد وفرت إلى حد ما الأمن الغذائي «وخصوصاً الحبوب» مما أفسح لها (الحكومات) حرية حركة في القضايا السياسية وخصوصاً الإقليمية منها (ولنتذكر مثال مصر….) كما ضمن لها الخروج من حالة الحصار المفروضة إمبريالياً  على سورية في فترة الثمانينات. كما وفرت لسورية نمواً زراعياً في تلك الفترة بمعدل (17%) سنوياً وبالتالي زيادة في نسبة الدخل الوطني.

فما هي تلك السياسات المتبعة التي أدت إلى وفرة الإنتاج؟

1. تسويق جيد مع أسعار تعطي هامش ربح جيد للمنتجين.

2. توفير مستلزمات الإنتاج، وبأسعار معقولة ومدعومة.

3. مضاعفة مساحة الأراضي المروية مع تقديم قروض للمنتجين الذين أنشؤوا مشاريع لذلك.

وكما قلنا سابقاً فإن هذه السياسات أدت إلى تأمين الحد الأدنى من الأمن الغذائي وزيادة النمو. وعلى سبيل المثال:

كان إنتاجنا من القمح في أحسن السنوات قبل تطبيق هذه السياسات 1200 ألف طن. وبعد تطبيقها انتقل في أسوأ السنوات إلى 3.5 مليون طن. وارتفع إنتاج القطن كذلك من 300 ألف طن إلى 850 ـ 1150 ألف طن مع انخفاض المساحات المزروعة (وهو مصدر رئيسي للعملات الصعبة).

الحمضيات: انتقلنا من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة. أما التفاحيات فقد انتقلنا من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة. والزيتون تضاعف إنتاجه، والزيوت وصلنا تقريباً إلى حالة الاكتفاء الذاتي بدل الاستيراد الكبير. والخضار كذلك، إلخ....

وبالتالي وفرت هذه السياسات:

1. زيادة نمو الدخل الوطني.

2. ازدياد دخل الدولة من العملة الصعبة، وانخفاض استيراد المنتجات الزراعية.

3. تأمين الحد الأدنى من الأمن الغذائي، وبالتالي حرية الموقف السياسي.

4. ازدياد التوظيفات في القطاع الزراعي بسبب ازدياد التراكم لدى المنتجين.

5. وفرت زيادة في توظيف اليد العاملة الزراعية.

6. ازدادت التوظيفات في اليد العاملة الزراعية (ازدياد تعليم أولاد المنتجين).

7. تأمين فرص عمل جديدة في القطاع الصناعي.

8. تقليص الهجرة من الريف إلى المدينة.

9. تحسين تركيب الدخل الوطني.

وقد كان من الممكن مضاعفة هذا النمو لو شملت هذه السياسات قطاع الإنتاج الحيواني (وهو يشكل إلى الآن أحد فرص النمو المتاحة). وبدل أن تسعى الحكومات المتعاقبة بعد ذلك إلى تعميق هذه السياسات، وتطوير قطاع الصناعات الزراعية وشمل الإنتاج الحيواني بهذه السياسات بدأت التراجع عن سياساتها بحجج واهية.

وبدأت تتخلى عن هذه السياسات عن طريق:

1. زيادة كبيرة في أسعار مستلزمات الإنتاج:

■ ضاعفت أسعار الطاقة (مازوت كهرباء).

■ ارتفاع سعر الأسمدة.

■ ارتفاع سعر البذار وغراس الأشجار المثمرة.

■ خفضت الإقراض الزراعي.

■ تخلت عن استيراد المبيدات للقطاع الخاص مما أدى إلى مضاعفة أسعاره عدة مرات ودخول مبيدات محرمة دولياً، وكذلك مبيدات غير فعالة (لاحظ ما ينشر بهذا الصدد في الصحف المحلية).

■ ارتفاع أسعار أدوات الإنتاج الزراعي.

بمعنى آخر إن هذه السياسات أوقفت الدعم عن القطاع الزراعي لها، بل حمَّلت المنتجين أعباء إضافية لا علاقة لهم بها.

   2. سوء التسويق:

■  أوقفت شركات التسويق الزراعية الحكومية عن العمل تقريباً (شركة الخضار والفواكه ـ شركة اللحوم).

 لم تضع هذه الحكومات سياسة تشجيع التصدير إلى الخارج للمنتجات الطازجة (خضار وفواكه) كصندوق لدعم التصدير مثلاً كما هو الحال في تركيا، 

أو إرسال وفود إلى الدول التي يمكن لها أن تستورد منتجاتنا، مما أدى مثلاً إلى أن تغزو المنتجات الزراعية التركية دول الخليج.

■  لم تضع روزنامة واضحة وجيدة لاستيراد المنتجات الزراعية المنافسة لمنتجاتنا (البصل ـ الثوم مثلاً).

■ عرقلت أو أوقفت تسويق بعض الحاصلات الزراعية التي كانت الدولة تسوقها (فول الصويا....إلخ)

 ■ لم تسع إلى تشجيع إنشاء مصانع لتصنيع المنتجات الزراعية، وأوقفت استبدال الآلات في هذه المصانع التابعة لها.

< بدأت بوضع صعوبات جدية أمام تسويق محاصيل استراتيجية تدعم اقتصادنا كما حصل مع القطن في العام الماضي.

■  لم تشجع وتشرع للتسويق الجيد (الفرز ـ التوضيب ـ التشميع....إلخ).

والسؤال المطروح: لماذا جرى ذلك؟ وماهي تبريرات الحكومات لذلك:

1) وقف الدعم عن القطاع الزراعي مطلب أمريكي أوروبي للدخول في «الغات» أو الشراكة المتوسطية وكأن هذه الدول ليس بينها حرب على هذه القضايا.

2) العرض والطلب هو أساس في التسويق الزراعي (المطلوب أن يشار إلى أي دولة يكون فيها العرض والطلب الفالت من عقاله هو أساس التسويق).

3) تخفيض أعباء الميزانية (وكأن ازدياد النمو والإنتاج هو عبء على الميزانيات).

نتائج هذه السياسات

1) انخفاض سعر تسويق المنتجات الزراعية، وفي أحيان كثيرة، إلى ما دون كلفة الإنتاج. وهذا بدوره يؤدي إلى:

■  انخفاض التمويل الذاتي للقطاع الزراعي.

■  إفلاس بعض المنتجين وتحولهم إلى يد عاملة عاطلة عن العمل.

■  انخفاض مستويات معيشة المنتج، وبالتالي انخفاض التوظيف من اليد العاملة، وازدياد الأمراض.

■  تدهور إنتاج كثير من المحاصيل.

2) ازدياد الهجرة من الريف إلى المدينة.

3) انخفاض حصة الزراعة من الدخل الوطني، وتشوه تركيبه أكثر.

4) تدهور في حالة الأراضي الزراعية.

5) والسؤال الأغرب: لماذا لم تنخفض أسعار المنتجات الزراعية للمستهلكين؟

(هل نعرف بالتالي من هو المستفيد)؟

ماهي السياسات البديلة المطلوبة؟

1) تفعيل التسويق الحكومي عن طريق:

■  العودة للاستثمار في التصنيع الزراعي.

■  تفعيل شركات الدولة العاملة في هذا المجال.

■  تفعيل دور الحكومة في التسويق (إرسال ملحقين زراعيين، إرسال وفود إلى الدول التي يمكنها أن تستورد منتجاتنا «أوروبا الشرقية ـ الخليج العربي»).

عند إحدى زيارات الرئيس الفرنسي إلى اليابان ، كانت النقطة الأدنى في جدول الأعمال تسويق التفاح الفرنسي.

2) الاعتناء بالأصناف التسويقية، وتحديد أماكن خاصة لها.

3) إصدار تشريعات تؤمن حسن عمل التسويق.

4) تطوير وزيادة التوظيفات في مجال البحوث التسويقية.

5) العودة إلى دعم مستلزمات الإنتاج.

6) رفع أسعار المنتجات الزراعية إلى مستوى يؤمن هامش ربح مجز للمنتج. وخاصة للمسوقة من قبل الدولة.

7) السعي إلى تغيير مهمة اتحاد الفلاحين من طبيعة خدمية إلى تسويقية، بعدما استنفد الشكل الماضي أهدافه.

8) التفكير الجدي بتطوير قانون الخطة الزراعية بعد مضي ما يقارب العشرين عاماً على تطبيقها بما يؤمن التوازن بين طرفي العقد: (الدولة عن طريق مؤسساتها من جهة، والمنتج من جهة أخرى). مع استخدام الروافع الاقتصادية في تطبيق الخطة.

9) إيجاد اختصاص تسويق في كلية الزراعة.

10) وقف الفساد والإفساد في آليات التسويق القائمة.

11) إنشاء صندوق دعم التصدير وصندوق تعويض الكوارث على المحاصيل.

 

■ غانم أتاسي