هموم ومعاناة وفقدان الأمل بمستقبل سعيد أنشودة العودة إلى المدرسة أصبحت عبئاً كبيراً
الأغنية التي كنا نغنيها في اليوم الدراسي الأول من كل عام، أصبحت لحناً حزيناً ينذر بالألم وقدوم الهموم والمعاناة، بعد أن كان هذا اليوم ذا إيقاع خاص، ينتظره الأهل قبل الأطفال، وكانت السعادة تغمر وجوه الجميع، ولاسيما من كان يأتي برفقة أبيه أو أمه للصف الأول. وكان الأهل يرون المستقبل في عيون أطفالهم، أما الآن فأي مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال؟! وأية أيام سوداء تتربص بهم على مفارق الحياة الطويلة القاسية؟! فقد أصبح افتتاح المدارس فاتحة معاناة مريرة وهموم طويلة تكاد لا تنتهي، مع العلم أن سورية من البلدان القليلة التي حافظت حتى الآن على مجانية التعليم الأساسي جزئياً.
أرصدة همٍّ ومعاناة متراكمة
افتتاح المدارس هذا العام يتوِّج موجات متلاحقة من الصدمات التي عاشها المواطنون في سورية، فأسعار المواد الاستهلاكية التي ارتفعت بشكل جنوني بعد رفع الدعم عن المازوت، قد أثقلت كاهل المواطن وجعلت الراتب لا يكفي لمصروف عشرة أيام من الشهر، وذلك للطعام والشراب فقط، فكيف وقد ترافق افتتاح المدارس هذه السنة مع شهر رمضان وأسعاره الكاوية، وتحضيرات المواطنين وتحسبهم لقدوم عيد الفطر، مع ما يتزامن مع افتتاح المدارس في كل سنة، من مواسم تحضير مؤونة الشتاء من الزيتون والمكدوس والخضار المفرَّزة، ليتفادى المواطن شراءها في الشتاء بأضعاف سعرها، أو يعاني من عدم وجودها، إضافة إلى أنه لا يكاد ينتصف شهر أيلول من كل سنة، حتى يبدأ عام جديد من المعاناة وانتظار الهم والقلق، فقد أصبحت أيام الخريف الباردة على الأبواب، مع كل ما تحمله من ضرورة تأمين المازوت للتدفئة، فمن أين للمواطن صاحب الأسرة، وذي الدخل المحدود الذي لا يتجاوز في أحسن الحالات عشرة آلاف ليرة سورية، أن يؤمن كل المتطلبات الضرورية المعيشية لأسرته، من مصاريف يوميات رمضان وتحضيرات العيد، ومؤونة الشتاء، والمازوت، ومستلزمات مدراس أولاده؟! أليس مجرد التساؤل عن هذا والقلق بشأنه، انعداماً للشعور بالأمن والأمان والاستقرار في الحياة المعيشية اليومية للمواطن؟!
كان هذا لسان حال كل من التقيناهم من الطلاب أو الأهالي، أو حتى الجهاز التدريسي والإداري في المدارس، حيث كانت لنا اللقاءات التالية:
• المواطن أبو جهاد والد لثلاثة طلاب، في الصف الرابع والثامن والحادي عشر، كانت الأكياس والأوزان التي يحملها عائداً إلى بيته خير دليل على المسؤوليات والالتزامات الكبيرة المطلوبة منه عند افتتاح المدارس، وقال لنا: «شوفة عينك، هذا جزء من متطلبات مدارس الأولاد، وقد اضطررت لاستدانة مبلغ من المال، أو الاقتراض بالفائدة، لتأمين ثمن الدفاتر والقرطاسية واللباس والحقائب المدرسية، خاصة وأن لدي ثلاثة أولاد في مراحل مختلفة من المدارس».
• المواطن حسن الملقب بـأبي جمال قال: «أنا لا أستطيع كسر نفسي لتحمل القرضة أو الدَّين، بل إننا نعيش حياة التقشف والتوفير طيلة أيام السنة، ونحرم أنفسنا من الكثير من الضروريات، لمجابهة هذا الشهر الأسود، فالأسرة تتكون من أربعة أولاد في المدارس، وأمهم، والراتب لا يزيد عن عشرة آلاف ليرة سورية، وكنا في كل شهر نقتطع ألفي ليرة من الراتب، ولا نستطيع أن نتصرف بها أو نمس منها القرش، حتى لو مرضنا أو وقعنا في ضائقة أو ورطة ما».
• مواطن آخر قال: «إن الحكومة بسياستها في تجويعنا وحرماننا، تدفعنا لارتكاب أفعال غير مشروعة، فهل نسرق؟ هل نقتل وننهب لتأمين الطعام لأسرة من ستة أشخاص؟! فالمصروف وحده يكسر الظهر، ويعدم بركة الراتب، ومن المستحيل أن نوفر أي جزء من هذا الراتب الأبيض للشهر الأسود، فلكل شهر مصيبة الخاصة، وكل شيء في الأسواق يرتفع سعره دون رقابة، ودون حساب أو عقاب، أو حتى اهتمام من أولي الأمر».
• المواطن فضل الله العشي قال: «نحن نلجأ إلى الأسواق الشعبية الرخيصة التي تبيع المستلزمات بسعر الجملة، ونبحث طوال النهار عمن يبيع الحقيبة أو بدلة المدرسة بسعر أخفض ولو بـ10 ليرات سورية، ونعرف مسبقاً أنه لن تمضي ثلاثة أشهر أو أربعة، حتى نضطر لشراء مستلزمات جديدة، من لباس أو حقائب أو غيرها، لأنها بالأساس كانت من نوعية رديئة، ولكن هذه هي قدرتنا حالياً، نداوي الحاضر بالحاضر».
الأسواق الشعبية ومعارك التوفير
زارت «قاسيون» بعض الأسواق الشعبية، وشاهدنا الكثير من المواطنين يضطرون «للمفاصلة» في السعر، وقد تصل المفاصلة إلى حد المماحكة، أو التفوه بألفاظ لا يضطر أحدنا لاستعمالها إلا ساعة الضيق والغضب، كأن يقول: «الله لا يوفقكم على ها الأسعار» أو «والهب حرام عليكم، عم تسرقونا وتنهبونا، منين بدنا نجيب ثمن ها اللوازم الغالية؟!».
• صاحب مكتبة كبيرة في مخيم اليرموك قال: «ن حركة البيع هذه السنة أقل كثيراً من السنة الماضية، والناس لا تشتري إلا الضروري الضروري، ونحن نستفيد من الأسعار المربحة في الأسبوع الأول فقط من المدرسة، وبعد ذلك سنضطر للإعلان عن عروض التنزيلات، بعد أن يكون الجميع قد استوفوا مستلزماتهم»
• الطالب عثمان من الصف العاشر، عائداً من المدرسة قبل انتهاء الدوام، يحمل حقيبة قديمة، ولا يلبس اللباس المدرسي، والدموع تملأ عينيه، وعند سؤاله عن قصته قال: «حتى الآن لم يشتر لي أبي بدلَةَ مدرسة، وقال لي: «انتظر أسبوعاً أو عشرة أيام، بكرة الأسعار بترخص»، والمدير ما قبل ها الكلام، وبهدلني وأهانني، وطردني من المدرسة حتى أشتري لباساً مدرسياً وأحضر ولي أمري...»
• المواطن غسان، الموظف هو وزوجته، حدثنا بشكل أكاديمي عن هم آخر من هموم المدرسة فقال: «منذ ثلاث سنوات صدر قرار عطلة يوم السبت إضافة إلى يوم الجمعة، مثل البلدان المتطورة، ومع أن هذا القرار وتوقيته لم يُدرَسا جيداً، ووضع الاقتصاد السوري لا يحتمل 52 يومَ عطلةٍ إضافية، وخاصة في المنشآت الإنتاجية والمدارس، ولكنه الآن أصبح أمراً واقعاً، يؤثر سلباً على سير العملية التدريسية وإنهاء المناهج والمقررات المدرسية، وكذلك أثر سلباً على حياتنا وتواصلنا مع أبنائنا، فقبل عطلة يوم السبت كان الدوام الوظيفي للساعة الثانية، ومع العطلة تمدد الدوام حتى الثالثة، ولا نصل أنا وزوجتي إلى البيت حتى الرابعة، فأين يذهب أطفالنا الذين ينتهي دوامهم الساعة الثانية عشرة أو الواحدة ظهراً؟! هناك مشكلة كبيرة في تأمين أولادنا، وقد نضطر لاستخدام جليسة أطفال ستأخذ منا ضعف راتبنا، أو نودع أطفالنا عند الجيران ريثما نصل للبيت!».
هموم إدارية وقرارات عشوائية
في جولة ميدانية لـ«قاسيون» على مدارس مدينة جرمانا في ريف دمشق، شكا لنا الكثير من مدراء هذه المدارس وأمناء السر فيها، من الضغط الشديد والازدحام وازدياد عدد الطلاب فوق الملاك المخصص للمدارس الثانوية أو مدارس التعليم الأساسي / الحلقة الثانية، وهذا يعود إلى عدة عوامل، أولها عدم التخطيط المسبق لتوزيع أماكن المدارس، بما يسهل استيعاب كل مدرسة لطلاب الأحياء المحيطة بها والمناطق القريبة منها، والعامل الثاني الذي يسبب حالة الفوضى وازدحام الطلاب في مدرسة، وقلة عددهم في مدرسة أخرى، هو القرارات العشوائية المتناقضة لمسؤولين في مديرية التربية في ريف دمشق. فبعضهم يأمر بتسجيل الطلاب الجدد، وقبول الأعداد مهما بلغت، وحتى لو وصل عدد طلاب الشعبة الواحدة إلى /55/ طالباً، وهناك أوامر أخرى تقول: «اقبلوا التسجيل بموجب عدد المقاعد فقط والملاك النظامي المخصص للمدرسة». فبأي القرارين سيلتزم مدراء المدارس والثانويات؟!
ثم إن هناك داخل بعض الأجهزة الإدارية لبعض المدارس والثانويات، من ضعاف النفوس والمستنفعين والانتهازيين، من يريد تشويه صورة التعليم الحكومي وتنفير الطلاب من المدارس والثانويات العامة، بهدف جرهم إلى المعاهد الخاصة التي يملكونها أو يعطون فيها دورات تعليمية بعد الدوام الرسمي!!
وهموم أمنية أيضاً
طالبت أكثر من مديرة مدرسة، بضرورة وضع حراس ليليين ونهاريين على المدارس، منعاً لأعمال التخريب التي تتعرض لها صيفاً وشتاءً، وخاصة أيام العطل الطويلة، حيث تصبح المدارس وباحاتها مراتع للتخريب والفساد وتكسير الأثاث. وإنه لمطلب محق لضرورة الحفاظ على المرافق العامة والمال العام، من التخريب والعبث اللامسؤول.
خطوات قاصرة على طريق الحل
إن الحكومة تعي تماماً هذا الوضع المأساوي للمواطنين، وتعلم علم اليقين إلى أين أوصلت البلد بقراراتها، وسياساتها الاقتصادية المدمرة، وتحاول بين الفينة والأخرى اختراع بعض الحلول الجزئية لمشاكل المواطنين وهمومهم ومعاناتهم، كي تخفف من إحساسهم بالذل والهوان... والنقمة، وفي محاولة لإظهار نيتها بذلك، أوجدت بعض النوافذ في المؤسسة العامة الاستهلاكية لبيع الدفاتر والقرطاسية ومستلزمات المدرسة، من لباس وحقائب، ولكن هذه النوافذ محدودة جداً، وفي مناطق ليست في متناول الشرائح الفقيرة، فقد كانت هناك نافذتان رئيسيتان، واحدة في مجمع الأمويين، والثانية في مجمع قاسيون، وهي تبيع المستلزمات بأسعار مخفضة، ولكن لا يستفيد من هذه النوافذ سوى سكان المناطق المحيطة والقريبة منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا توجد نافذة لبيع المستلزمات المدرسية في إحدى المؤسسات الاستهلاكية في جرمانا، ولا يستطيع ستمائة ألف مواطن الوصول إلى مجمع الأمويين أو مجمع قاسيون للحصول على متطلباتهم، وكذلك الحال بالنسبة لضاحية الأسد السكنية في حرستا مثلاً إذ لا توجد حتى مؤسسة استهلاكية بالأصل!!.
ابتسامات رغم الهموم والمعاناة
رغم كل تلك الصور البائسة والغصات المريرة، التي يعاني منها السواد الأعظم من شعبنا، فإننا نرى ملامح الغضب القاسية، على الوجوه المكفهرة، تتبدد وتعلو وجوه الأهل ملامح السعادة والانشراح، عند رؤية ضحكات أطفالهم الفرحين بقلم جديد أو حقيبة جميلة أو لباس أنيق....
ويتمنى الأهل أن يكون المستقبل واعداً لأبنائهم بالنجاحات والحظوظ السعيدة، بدل الحظوظ العاثرة وخيبات الأمل، التي واجهها الأهل كثيراً في حياتهم، علَّ الأولاد يُعوِّضون الأهل ما افتقدوه وعجزوا عن تحقيقه!!