بين قوسين: مواطن أم زبون؟
نت أنوي أن أكتب عن الخريف بما يشبه أغنية فيروز«دهب أيلول»، بنوع من الرومانسية الطائشة، هروباً من مناخ كابوسي يخنق أرواحنا جميعاً منذ أشهر. كان هذا الإحساس يرافقني في الثامنة صباحاً من يوم عطلة، لكن صوت قطرات ماء يتسرب من أنبوب يربط حنفية المطبخ ببقية التمديدات الصحية، أطاح رومانسيتي المستعارة.
اتصلت بالخبير الذي سبق وقام بعملية جراحية شاملة للتمديدات، كي يعالج المشكلة لكنه أمهلني إلى الخامسة بعد الظهر، ريثما تنتهي وردية عمله على التاكسي. المشكلة ليست هنا فقط، ذلك إنني لم أجد إلى اليوم، من يفهم عمله جيداً، سواء في التمديدات الصحية أم في غيرها، فالأنبوب لم يعد يحتمل الترميم، ولابد من استبداله بآخر جديد، وهذا الأمر يتطلب حفراً وتكسيراً وتبليطاً. تذهب إلى طبيب متخصص، فتكتشف بأنك فأر تجربة، فهو رغم كل الفحوصات، لن يصل إلى نتيجة واضحة، وهكذا يكتفي ببعض المسكنات. الكهربائي يقف حائراً أمام الأشرطة الملوّنة المتشابكة كالأمعاء، ثم يعمل على مبدأ ضربة الحظ إلى أن يصافحه أديسون بالمصادفة، وقس على ذلك. صراحة لم أصادف خبيراً فهيماً في عمله إلا فيما ندر. لا أسوار عالية للمهنة، بإمكان أي عابر تسلّق الجدار أو «بخشه» والتسلل إلى الداخل، من دون أضرار تُذكر. في بلادنا يتجوّل أشعب في الشوارع، دون أن يتهمه أحد بالطفيلية، طالما أن أحفاده يهيمنون على كل مفاصل الحياة، بعد أن تحولت كل المهن إلى منسف عربي، وما عليك إلا أن تغرق أصابعك في المرق والدسم. أطباء، ومهندسون، ومذيعون، ومعلمو بناء، وسائقو باصات، وطهاة، وممثلون، وكتّاب، وناشطون، وخبراء تجميل، وفلكيون (ينبغي أن تضيف هنا تاء التأنيث لبعض ما سبق).
لا مفرّ، أينما اتجهت سيصافحك أشعب ما بابتسامة ماكرة، يتلوها احتجاج صريح على خراب الذمم، والانحطاط الأخلاقي، والجهل، وسوء الإدارة، والزيف، وحاجتنا إلى ترميم الأوضاع، إلى آخر هذه الأسطوانة.
وحده الخبّاز يشكو البطالة وقلة الحيلة، فلم يعد هناك من يعطي الخبّاز خبزه، لسبب بسيط للغاية: هناك من التهم الطحين!