مجانين عامودا والسفر
لأسباب مرضية، قرر الطبيب المختص أن أحضر مرة كل أسبوع إلى دمشق، وذلك بعد أن بيّنت الفحوصات التي أجريتها في عامودا ضرورة ذلك. وهنا لا أتقصد الحديث عن مرضي لأن الأمراض في الجزيرة أصبحت معروفة، وهي إما الجلطات أو السرطانات أو الاثنتان معاً.. ولكني أود التطرق لشيء أكثر أهمية.
المهم، بدأت السفر إلى العاصمة.. ومن نعم الله علي أنني لم أذق أثناء السفر طعم النوم أبداً، ولكن ربما كان يغلب علي النعاس في بعض اللحظات.
في الفترة الأخيرة أصبحت أعاني كثيراً أثناء السفر وخاصةً عند وصولنا إلى تدمر، لأننا بتنا نقف عند نقطة التفتيش، فيدخل المسؤول ويطلب الهويات، وهذا شيء عادي، ولكن غير العادي عندما يسألك: «من أين أنت؟» رغم أن مكان الولادة معروف ومسجل بالهوية!!
ذات مرة سألوا شاباً جامعياً: «من أين أنت؟»، فأجاب «من الحسكة»، رغم أن مواليده في الدرباسية، لكنه قال اسم المحافظة لعله يبعد نفسه عن المشاكل، لأن مدينة الحسكة لم تحدث فيها مظاهرات. فقال له المسؤول: «يلعنك ويلعن بلدك يا .........»، وعندما اقترب مني سلمته هويتي وهوية عائلتي، فرد هوية العائلة باحترام إلي، وقال: «لا داعي يا عمو.. «من وين أنت؟ يا عم؟»، فأجبت: «أنا من عامودا يا عمو»، فقال: «أهلاً بك وببلدك وبربك يا عم»، ولم يكمل مشاهدة الهويات احتراماً وتقديراً لي، وقال للسائق: «تفضل، الله معكم»، فتعجبت كثيراً، وتساءلت في نفسي: «هل أصبح الفرق كبيراً بين الدرباسية وعامودا؟».. المهم، وضعت ألف إشارة استفهام وتعجب حول ما جرى.
في الأسبوع الثاني، وفي الوقت نفسه تقريباً، كنت جالساً في المقعد الأول، وقد غلبني النعاس، فدخل رجل الأمن المسؤول يطلب الهويات، فناولته هويتي فوراً لعله يقول لي مرة ثانية: «أنت من وين» فأقول: «من عامودا»، فيقول: «الله معكم» فأنام لحظةً أو بعض الوقت، لكنه نظر إلى الهوية هذه المرة، وقال: «من عامودا أنت ولاك!؟»، فقلت: «نعم»، وكان الباص مقسماً بين من هم من عامودا، ومن هم من الدرباسية، وبعد الانتهاء من تفتيش الهويات، قال: «كل أهالي عامودا ينزلوا للتفتيش»، أي تفتيش الحقائب، وعندها شكرت الله لأنه لا يوجد معي حقيبة، فأردت أن أكمل نومي، فقال بحزم: «انزل.. انزل أنت بالأول»، فقلت له: «لا يوجد لي حقيبة في الصندوق»، فرد بحزم أكبر: «انزل بلا علاك».. فنزلت، وتم تفتيش معظم الحقائب بالدور، ولم يجدوا شيئاً مخالفاً أو مريباً، لكنهم مع ذلك طلبوا منا الهويات مرة ثانية، ليتحققوا عبر الكمبيوتر إذا ما كان بيننا مطلوب ما.
المهم تم توقيفنا حوالي ساعة من الزمن، ومرت أكثر من سبعة باصات وباصنا لم يغادر موقعه، وأخيرا جاءنا الفرج بجملة ساخطة ينقصها التهذيب: «يللا انقلعوا!!».
قارنت بين سفرة الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع، وقلت في نفسي «الله يساعدنا»! وتذكرت القصة التي جرت مع والدي رحمه الله منذ أكثر من قرن.
كانت منطقة الأومرية (جيايي أومريا) أي جبال الأومرية، (وهي منطقة كردية، وجزء من كردستان تركيا، وتتألف من 130 قرية تابعة للأغا عثمان أومريان وهو من أسرة مير صونغ.. كانت تعيش هذه المنطقة بهدوء وسلام ومحبة، ولكن الأتراك لم يعجبهم الوضع، ومن أجل إثارة الفتنة واقتتال هذه العشيرة فيما بينها اعترفوا بمحمود آغا ثانياً في المنطقة وهو تالاتي. وبعد مرور فترة من الزمن انقسمت المنطقة إلى قسمين، قسم من أنصار محمود آغا ويسمون بـ«محمودكي»، وقسم من أنصار عثمان آغا ويسمون بـ«عثمانكي»، فانقلب ذاك الهدوء والمحبة والسلام إلى قتل وقتال وجرحى وتهجير وراحت العداوات تزداد يوماً بعد يوم.
وبينما كان والدي ينتقل من قريته إلى قرية أخرى مع حماره في صيف تلك الأيام، أحس بالعطش الشديد، وهو يمر بجانب أحد البساتين، فسلم على صاحب البستان ليأخذ منه إذن بشرب الماء، فلم يرد السلام قبل أن يتأكد من تحزّب ضيفه: هل هو عثمانكي أو محمودكي؟ وكان والدي عثمانكي، ففكر بحيلة ليخلص نفسه وحماره من هذا العطش ومن هذا البلاء، فقال يا أخي والله العظيم أنا عثمانكي، ولكن حماري محمودكي، فرد البستاني: «والله وبالله وتالله لن تشرب الماء مادمتُ حياً، أما حمارك فأهلاً وسهلاً به في قريتنا!!»، وهكذا سمحوا لحماره بشرب الماء، أما هو فلم يذق نقطة ماء حتى عاد إلى قريته!!.
■ عامودا – حمدالله إبراهيم