وسيم الدهان وسيم الدهان

«فرّق تسد».. شعار الحكومة في تحديد تعرفة النقل وأسعار السلع!

غريب أمر الحكومة في الفترة الأخيرة، فمنذ ما قبل إطلاق رئيسها تهمة «المعادي» على الإعلام المناوئ للتوجهات الليبرالية التي ينتهجها الفريق الاقتصادي وعلى رأسه النائب الاقتصادي، تبتدع أساليب وطرقاً مختلفة لبث الفرقة بين صفوف المواطنين بغية دفعهم إلى الانشغال بالقضايا الثانوية الضيقة وإهمال حقوقهم الأساسية الصريحة والعريضة.. ولعل آخر الإجراءات التي تدفع إلى مثل هذا القول هو إعلان محافظة دمشق تقسيم تعرفة بعض خطوط الميكروباصات التي تخدّم أحياء مكتظةً بالسكان في المدينة إلى (خمسات) بعد أن اعتاد الناس دفعها كاملة (عشرات)، ومثال ذلك تجزئة تعرفة الركوب لخطي (جادات/ سلمية) و(الميدان/ الشيخ محي الدين).

«فرق تسد»، هي فكرة راسخة المعالم في وعي السوريين وقد تشربتها ضمائرهم منذ نعومة أظفارهم على مقاعد المدارس، حيث كان مدرسو التاريخ يكابدون كل جهد يملكونه لترسيخ هذه الفكرة، وكان خير مثال يطرحونه حينها «تقسيم الوطن العربي».. اليوم، وفي هذه اللحظات، بات من الممكن القول إن الحكومة لجأت إلى استخدام هذه الفكرة ضد المواطنين، فكيف ذلك؟!

بعد مضي ساعات من إعلان الفريق الاقتصادي في الحكومة السورية رفع الدعم عن المحروقات، تم تعديل معظم تعرفات النقل داخل دمشق بحيث تصبح 9 ليرات سورية، وهنا بدأ السيناريو، فمن المعروف أن مشكلات كبيرة اندلعت بين المواطنين المطالبين بليرتهم الضائعة «فرق حساب» وبين السائقين الذين لم يجدوا حينها ليرات يعيدونها للركاب لأن المصرف المركزي كان قد أعلن للتو (وبعد أيام من رفع الدعم فقط) نيته إتلاف جميع ما في السوق من نقد معدني بفئة ليرة وليرتين، فما هذه المصادفة؟!

مرت الأيام، واستطاع بعض السائقين تجنّب غضب الركاب عبر تعويضهم عن ليرتهم بحبة «علكة» أحياناً أو «سكرة» بطعم النعناع أحياناً أخرى، وما هي إلاّ أسابيع قليلة حتى اعتاد الناس على دفع 10 ليرات بدل 9 وبفم مطبق، ولكن الحكومة لم تكن نائمةً حينها، بل كانت (على ما يبدو) ساهرةً تراقب ما يجري على الأرض بين الناس، وحين وجدت أن مشكلات الليرة الواحدة المختلقة بدأت تتلاشى وبدأ الناس بالعودة إلى رشدهم، وكل ذلك على الرغم من تخفيض سعر ليتر المازوت خمس ليرات كاملة، انتبهت الحكومة إلى أن أمراً ما يلوح في الأفق، إنه رمضان الكريم الذي بمجرد أن بدأت تباشيره تلوح أخذت الأحاديث تدور حول ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية عموماً وأسعار اللحوم الحمراء على وجه التحديد، فبدأت الحكومة تناور «إعلامياً» لتبرئة نفسها ورمي رداء التقصير على بعض التجار، فتارةً تناقش طمعهم وجشعهم وتارةً تشاركهم في الربح عبر واجهات عرضها التي خصصتها لإقناع الناس بأنها لم تتخل عن دورها التدخلي الإيجابي خدمةً لمصالحهم، ولكن ما الذي جرى؟!

انشغل الناس بقضية اللحوم الحمراء وبدؤوا يتبادلون أفكارهم جهاراً نهاراً، وباتوا معارضين علنيين لسياسات الحكومة الاقتصادية، يطالبون بمزيد من التدخل لدعمهم، وحين اشتد عود احتجاجهم قليلاً، وبدأ الإعلام «المعادي» بتجريس الحكومة على صفحات الجرائد كل يوم بيومه، وجدت الحكومة حلاّ سحرياً وقررت أن تلتف بسرعة حول الأمور وتعلن أنها بلا حول ولا قوة شأنها شأن المواطن العادي، فدعت إلى مقاطعة اللحوم الحمراء كسلاح لتخفيض أسعارها، وكأن اللحوم الحمراء ماكينة حلاقة أو «تنورة» صيفية!.

وهكذا، انتهى شهر الاستهلاك، وهدأت عاصفة اللحوم الحمراء و«نفدت» الحكومة من نق العباد، ولكن، إن فصل الشتاء (الثاني بعد رفع الدعم) قادم بجميع ما يحمله من مطالب بالدعم الذي تم إفشال إعادة توزيعه المزعومة قبل شهور فقط، وأمام خوف الحكومة من تزايد الاحتقان الشعبي الكامن الذي لا يمكن التنبؤ بمخرجاته، وبما أنه من الصعب جداً على الحكومة أن تدعو إلى مقاطعة البرد ومحاربة مروجيه، كان على الحكومة أن تفرّق العباد لتسود قوانينها من جديد، ريثما تعيد ترتيب أوراقها الليبرالية لابتلاع كل أوراق اللعب الأخرى، وبما أن الأمرين الأشد التصاقاً بهموم الناس ويومياتهم هما المواصلات وأسعار الغذاء، وبما أن التجربة علمت الحكومة أن إلهاء الناس ببعضهم البعض «شغلة بسيطة» فكان الخيار الأقرب إلى مخيلتها هو تجزئة تعرفة الميكروباصات، بحيث تصبح القضية قضية خمس ليرات وليس ليرةً واحدةً كما في المرة الأولى (والأمر الملفت للنظر أن المحافظة أقرت 5 ليرات سعراً لنصف المسافة وليس 4.5، وهذه إشارة إلى التعرفة/ اللغم الأولى وإلى السعي الحكومي لبث الفتن بين المواطنين).

وبخصوص «فرق تسد» شعار الحكومة الجديد، فإنه والحق يقال ناجح، ونجاحه آت للأسف من التصاقه الشديد بيوميات الناس البسطاء، فالسائق مغبون كما الراكب مغبون، ولكنهما يتشاجران مرات ومرات كل يوم ظاناً كل واحد منهما أنه المغبون الوحيد.. وبينما هما يتشاجران يمكن تخيل شخص الحكومة الاعتباري (القادر على مقاطعة اللحوم الحمراء) يقهقه وقد انتفخ كرشه لشدة الضحك.. فيالها من قضية تلك التي يتشاجر عليها الناس وينسون من اختار معاداة مصالحهم، وياله من نهار.. وبئس الشعار!.