قم للمعلم
على غير عادتي... في مطلع كل آذار حيث أبدو متفائلا جذلاً مستقبلاً عيد المعلم بشيء من الطلاوة والغبطة، يغشيني الحبور ويهز مشاعري السيل الطافح من عبارات التبجيل والإجلال التي تكيلها وسائل إعلامنا المكتوبة والمسموعة والمرئية للمعلمين - وأنا منهم طبعاً -
على غير تلك العادة فقد سبحت في أعماق ذاكرتي الهرمة التي تعتعها ذاك المشوار الطويل الذي امتد إلى نصف قرن ونيف في التعامل مع المدارس والعلم والمعلمين، جلّه معلماً وقليل منه تلميذاً وطالباً، وغصت في قاعها متلمساً ما قيل في حق ذلك البنّاء العظيم الذي يبني العقول- كما يقال- بدءً من أحاديث الرسول الكريم (ص) وانتهاءً بما جاد به الفلاسفة والحكماء والأدباء والشعراء، ومنهم أميرهم الذي اقتبست عنوان مقالتي من قصيدته الرائعة. ولا أجانب الحقيقة إذا قلت استنادا إلى ذاكرتي الموصوفة آنفاً إن ما كان يتمتع به المعلم من مكانة ورفعة سواء في الجانب المادي أو المعنوي لا يقاس بما هو عليه الآن، فقد كنّا – واسمحوا لي أن أدخل ذاتي الآن في المسألة مع تلك الأجيال المتعاقبة من زملائي وزميلاتي الذين كانوا في طليعة من سطروا التاريخ المجيد لوطني ولشعبي – كنّا نحتل مكانةً مرموقةً في السلّم الاجتماعي . فقد كان يُشار إلى المعلم بالبنان، بل ويغبط على ما هو عليه من منزلة رفيعة مادياً ومعنوياً، ولذلك فقد تعرّض بالمقابل لتعسف واضطهاد المستعمرين وعملائهم أولاً، والمستغلين ومصّاصي الدماء الذين يسعون دائماً لتجهيل الشعب وانتزاع وسلب خيرات الوطن ثانياً.
ومما أذكره في طفولتي، وأنا ابن ريف بسيط ولكن طيب ومعطاء، أن الناس كانوا عندنا يذكرون على سبيل اليقين – قال المعلم – تحدث المعلم – أوضح المعلم –أي أنه كان مرجعية الشعب الطيب، بل إنه كان – عدا الفطرة – الوسيلة الهامة والفاعلة التي تغذي الناس بالوعي الاجتماعي والوطني الذي تمتع به شعبنا على مدى تاريخه المجيد. وهنا لا ضرورة للإسهاب فالقارئ العزيز لا يقل عني اطلاعاً ومعرفة بتلك المكانة التي كان المعلم يحتلها.
ولكن ماجرى في العقود الأخيرة وتحديدا ً في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم أو ما قبلهما بقليل، يشير إلى تلك الصورة الوضاءة المشرقة التي أشرت إليها قد تبدلت وحلت محلها صورة قاتمة، فقد هبط المستوى المعاشي للمعلم إلى ما تحت خط الفقر وبالتالي تدهور وضعه المعنوي إلى ما يوازي ذلك، حتى أن بعض ضعاف النفوس وصغار العقول أصبحوا ينحون باللائمة في مأساة المعلم المادية إلى عدم تمكنه من الحصول على الرشوة أسوة ًبباقي الموظفين، لأنه لا يوجد في المدارس سوى الطباشير، وكأن الرشوة حسب منظورهم أصبحت كسباً مشروعاً ورزقاً حلالاً حرُم منه المعلم المسكين، بل وصل الأمر في وضع المعلم أنه أصبح ملزماً بأن يعمل عملاً آخر ليسدّ رمق أسرته مهما كان هذا العمل شاقاً جسديا ومتعبا أو كان مبتذلاً لا يليق بكرامة الإنسان، كأن يعرض ما يسمى (بسطة) على قارعة الطريق.
إضافة إلى ذلك بل وأهم منه أن ما يتهدد المعلم وكرامته هو فقدانه للحصانة التي تحفظ كرامته فقد يعترضه شرطي ما ويجره مخفوراً إلى النظارة لأي سبب وذلك بقوة الأحكام العرفية، وقد تعرضت لهذه النقطة في المؤتمرات النقابية، فماذا كان الرد من مسئوولي النقابة «شكراً لك يا زميل على خطابك الذي ألهب المشاعر ولكنك تتحدث عن أمور تتعلق بأمن البلد!!».
وقد تناسوا أن أمن البلد من أمن أبنائه وعلى رأسهم معلموهم ومثقفوهم وقد لا يعلم أي منهم أنه في فرنسا عندما تتم الدعوات الرسمية فإن الصف الأول في الجلوس يخصص لممثلي المعلمين أما الصف الثاني فيخصص لعمدة باريس. وغني عن التعريف أن عمدة باريس هو الرجل الثاني بعد رئيس الجمهورية!!
رغم تلك اللوحة القاتمة في حياة المعلم، لكنني أعتز وأتشرف بسبعة وثلاثين عاماً في التعليم، ومما يثير الاعتزاز في نفسي أكثر أن بناتي السبع: ثلاث منهن معلمات واثنتان مقبلات على الطريق نفسه.
هذا غيض من فيض من مأساة معلمينا ومثقفينا وهم الشريحة الأهم في مجتمع ينشد التطور والتقدم. ومرة أخرى لا أظن أنه يخفى على القارئ الكريم ما يتعرض له شعبنا وفي طليعته المعلمون والمثقفون من عسف وتجاوز للحقوق.
■ أحمد الذياب