حكاية عادية جداً
يخرج من بيته مستاءً.. يمشي بخطىً سريعة في الأزقة الضيقة المنتهية إلى الشارع العام. يقف بانتظار السرفيس. تعود كلمات زوجته إلى الذاكرة قاسية موجعة.... «شو بدي بكل هالحكي... معك قرش بتسوى قرش»... يتحسس جيوبه الفارغة... يعني أنا بنظر حرمنا المصون ما بسوى شي؟! الله يرحم أيام زمان... أيام الخطوبة وما قبلها، يوم كان وجودي يغنيها عن الدنيا وما فيها..
يستيقظ من شروده على موسيقى سرفيسين يتسابقان على الطريق، يشير لهما بيده فيصرخ أحد السائقَين للآخر بروح رياضية نادرة: «شيل هالخمسة، حلال عليك»!
يتلفت حوله مستغرباً ليدرك في اللحظة أنه المقصود... أنا أساوي خمس ليرات إذن؟!
يقرر أن يمشي... لو ذهبت إلى العمل بهذه الحالة، سأصطدم حتماً مع زملائي ومع المدير وحتى مع الساعي ومع مراقب الدوام... من الأفضل ألا أذهب، لكن أين سأقضي يومي؟ لا أريد العودة إلى البيت... يتابع المشي.
المواطن إذن بنظر سائق السرفيس يساوي خمس ليرات... خمس ليرات فقط! يدهشه هذا الاكتشاف. يتأمل زحمة السيارات في الشارع... سيارات من مختلف الألوان، بيضاء ورمادية وحمراء وصفراء... تلمع فكرة أخرى، تُرى، كيف يرى سائق السيارة الصفراء المواطن؟
المواطن بنظر سائق التاكسي يساوي (عدّاد ونص)... يعني هون صار سعره أعلى... يبتسم للفكرة ويتابع المشي.
على هذه الأرصفة، يحار المرء أين يمكن له أن يضع قدمه، حيث صادرتها البقاليات وغطتها بصناديق الفواكه والخضار من كل نوع ولون... يقف ويتأمل هذه الصناديق، وتستوقفه لائحة الأسعار المكتوبة بقلم الرصاص... ارتفاع الأسعار بات أمراً اعتيادياًً حتى أن التاجر سئم من تكرار كتابة هذه اللائحة يومياً ولذلك فهو يفضل كتابتها بقلم الرصاص لسهولة المحي وإعادة التسعير... يتابع المشي.
لماذا تهبط قيمة المواطن بينما يرتفع سعر كل شيء حوله؟!... يتساءل.
يحاول الهرب من نظرات زوجته، من كلماتها، فلا ينجح.. أنا لا أساوي شيئاً في نظر زوجتي، ولا أساوي أكثر من خمس ليرات في نظر سائق السرفيس، وأساوي (عدّاد ونص) في نظر سائق التاكسي... وحدها الحكومة تقدّر قيمتي وتعطيني حق قدري، فهي ترى أنني أغلى من أن أقدّر برقم (ثابت)، فقيمتي تكبر مع الزمن، ولذلك نجد أن الأسعار ترتفع يومياً وعلى مرأى ومسمع من الحكومة، ربما لأنها تطبق المثل القائل «الغالي غلّيلو». ولذلك كلما كبرنا بعين الحكومة، كلما شطحت الأسعار... يتابع المشي.
لماذا لا يكون هناك سعر متصاعد للمواطن أسوة بالبطاطا والخس والفجل؟... يفكر... لو يتحقق لنا ذلك فإن سعر المواطن (المدروس) ربما يعيد له كرامته المفقودة... يتابع المشي بلا هدف.
ملاحظة: كلمة (المدروس) صفة للمواطن مجرورة مثله تماماً.