كيف أصبحت شيوعياً
ضيفنا لهذا العدد الرفيق القديم إيليا جورج مباردي.. أستاذ إيليا كيف أصبحت شيوعيا؟
أنا من مواليد دمشق باب توما عام 1918، وأبي كان يحمل الجنسية الإيرانية (على عادة بعض العائلات الغنية التي تحصل على جنسية دولة أجنبية لتأمين جو من الحماية - أجانب) وكان تاجراً في سوق الحرير، درست الابتدائية بالمدرسة الإنجيلية الوطنية ثم تابعت الدراسة بمدرسة الروم «الآسية» وحصلت على البكالوريا الأولى عام 1937، دخلت الحزب عام 1934 عن طريق الرفيق حكمت الجدّ (ربوع) الذي كان قد انضم للحزب عن طريق الرفيق خريستو قسيس العامل بمعمل الشيمنتو بدمر، وكنا نجتمع في قهوة الشيخ ديب بشارع بغداد قرب السبع بحرات حيث يأتي مسؤول حزبي ليعرفنا على سياسة وأفكار الحزب، والطريف أنني كنت حينها مولعا بقراءة القصص البوليسية، وفي البداية توهمت أن التنظيم (جمعية سرية) لكنني سرعان ما فهمت الوضع بشكل صحيح عن طريق المسؤول وقراءة الكراريس الحزبية، وفي تلك الفترة تعرفت على الرفيق طه الصواف، وهو ذو بشرة سوداء كنت أسير معه في طرقات حارتنا، وكان تحت مراقبة الأمن الذين سألوا عني ثم حضروا إلى مدرستي وقابلوا مديرها الأستاذ جميل صليبا وهددوني أمامه بأن أبتعد عن الشيوعيين، وأذكر أن أول مهمة قمت بها عام 1934 هي المشاركة باحتفال أقامه الرفاق بذكرى معركة ميسلون أمام ضريح البطل الشهيد يوسف العظمة، حيث ألقيت بعض الكلمات، ومنها كلمة الأديب رفيق الاختيار بحضور وفود من المدن السورية ومن لبنان، ثم وزعت منشورات بهذه المناسبة (كان قد خبأها رفيق يعمل سائقا على طريق بيروت دمشق بحفرة قريبة قبل الاحتفال بيوم) وقام عناصر الأمن بمداهمة الاحتفال واعتقلوا بعض الرفاق وفتشوا الآخرين، ومنذ ذلك اليوم بدأ مسلسل الملاحقات، وقد تأخرت كثيرا في الدخول إلى الجامعة وفي عام 1947 نلت شهادة الحقوق وانتسبت لنقابة المحامين عام 1948، أما بالنسبة للتنظيم، فقد كانت منظمة الحزب في حي القصاع وباب توما من أنشط وأقوى منظمات العاصمة، وكنت مع الرفاق قسطنطين بندقجي وخريستو قسيس وحكمت ربوع الجد مسؤولي هذه المنظمة، وقد أدخلت للحزب عددا من الرفاق منهم خليل فارس وداود رستم، ثم جاءنا الرفيق النقابي حنين شاغوري ليسهم في تقوية المنظمة بإدخال عدد من النقابيين النجارين إلى صفوفها.
استأجرنا بيتاً في (الصوفانية) وصار مركزاً للرفاق بالمنظمة، كما كان لشقيق الرفيق الأديب ليان ديراني دكان يلتقي فيها الرفاق، وفيها تعرفت عن قرب على الأديب رفيق الاختيار الذي بكى يوما أمامي حزنا لأنه لم يقبل بالحزب لكونه (مدمنا على المشروب)، وفي ذلك الوقت تعرفت على الرفيق نجاة قصاب حسن أحد مسؤولي الحزب في مدينة دمشق. ومن ذكريات تلك الفترة حادثة الهجوم على مكتب الحزب 1947 واستشهاد الرفيق حسين عاقو وإصابة الرفيق جورج عويشق وغيره من الرفاق الشجعان الذين دافعوا عن مكتب الحزب، وأتذكر الرفيق جوزيف شاغوري الذي استبسل بحماية رفاقه، واشتبك مع المهاجمين وصدهم (سافر بعدها إلى يوغسلافيا لأنه اتهم بقتل أحد المهاجمين)، وكنت حينها مع رفيقين محاميين قريبا من المكتب عندما هاجمنا عدد من المتظاهرين، فهربنا باتجاه حارة قريبة، والتجأت لأحد البيوت، وبعد خروجي أوقفني رجال الشرطة ثم أطلقوا سراحي.
تمرنت على المحاماة لدى الأستاذ إبراهيم الحمزاوي الذي صار فيما بعد محافظا لمدينة دمشق، أبعدت عن الحزب بتهمة «الدفاع عن أرباب العمل، وعدم الدفاع عن حقوق العمال» وإنني أبرئ نفسي من هذه التهمة، ورغم ذلك بقي الرفاق يستخدمون منزلي مركزا للكثير من نشاطاتهم الحزبية والجماهيرية، وعندما قام حكم أديب الشيشكلي لوحقت وصدر قرار رسمي بطردي من سورية بحجة أني إيراني الجنسية وكوني شيوعيا، فتواريت عن الأنظار لمدة طويلة ثم قمت بعدها بالحصول على الجنسية السورية، وفي عهد الوحدة لوحقت فهربت إلى لبنان. وكثيرة هي الأحداث والمواقف التي تستحق أن نتحدث عنها لو وسع المجال!!.
المهم أنني (وأنا على مشارف التسعين) أستعرض شريط سنوات عمري، فأحس بمشاعر ارتياح صادقة كوني أمضيت عقودا من حياتي عاملا لخير شعبي ووطني، ورغم ما اعترض عملي من أخطاء، فأنا أعتز بما أسهمت به من جهد وعمل ونشاط في صفوف الحزب الذي كان ميدانا فسيحا للنضال الوطني ضد الاحتلال والدكتاتوريات العسكرية والمشاريع والأحلاف الاستعمارية، وكذلك للنضال دفاعا عن حقوق العمال والفلاحين وعن حقوق الشعب في الحياة الحرة الكريمة.
والأهم اليوم أن نعي أسباب الضعف الذي أصاب نضالنا ودورنا كحزب للكادحين، وفي مقدمة الأسباب كما أراها الانقسامات والتبعثر، وكل من لا يتصدى لتلافيها أعتبره مخطئا ومسؤولا عنها، وأقول بكل الصدق: لا قيمة ولا دور لنا إذا بقينا منقسمين، وشرف النضال يهيب بالجميع، أن وحدوا صفكم وأعيدوا للحزب سمعته وهيبته ودوره الأساسي في خدمة شعبنا الذي نعتز بالانتماء إليه، ووطننا الغالي الذي حررته وبنته تضحيات الثوار والمناضلين. وفي الختام أشكر لصحيفة قاسيون اهتمامها وجهدها في هذا المجال الهام.