موسم العطش في العاصمة ومحيطها..

● عادت أهزوجة «الصهريج» و«الكالون» والجهات المسؤولة تغط في النوم!!
● المواطن ضحية إهمال المؤسسات وجشع الانتهازيين..

 تحوّل بردى إلى ساقية خائبة في غضون سنين قحط قليلة، وكل صلوات الاستسقاء عجزت عن إعادته إلى أحيائه الأولى ومسيرته التاريخية التي ألهمت الشعراء.. وكما يقول بعض المؤمنين: «الفساد هو من أهلك الماء وسيهلك الإنسان»، وفي لغة العلم يتحدث الباحثون عن تغير مناخي سيضرب الأرض، ويعد الغرب العدة لخلق البدائل لمواجهته، والبلاد العربية التي ليس فيها نهر يجري أقامت مشاريع التحلية، وليبيا أنجزت نهرها الصناعي منذ أكثر من عقد، أما نحن فمازلنا نتعامل مع مشكلة الماء الشحيح ككل قضايانا، وبالآلية المتخلفة نفسها، وبالتنسيق مع متعهدي الشبكات الفاسدين، على أمل أن تحل المشكلة لوحدها، أو يرضى الله عنا، ويدعمنا بمواسم خير قادمة..

البداية من الريف.. توزيع جائر

استغرب أهالي مدينة (قطنا) تفاقم أزمة المياه في مدينتهم، وذلك أنهم كانوا حتى وقت قريب يشربون من نبع طبيعي يتدفق جوفياً وبغزارة جيدة من جبل الشيخ المتاخم، وحتى آبارهم المساعدة ليست شحيحة حتى الآن، فرأس النبع يغذي المدينة وضواحيها من المخالفات، ولكن بدأت غزارته بالتراجع رغم أنه لم ينضب بعد، ومنذ موسمين تكررت حوادث تلوث النبع، مرة بالصرف الصحي، ومرة من إهمال مستثمر بسبب الكازينو القابع فوق النبع، كذلك بسبب سوء تنفيذ الشبكة الجديدة التي أمنتها المنحة اليابانية لكل ريف دمشق، وحتى وقت قريب لم تتسلم وحدة المياه مشروع الشبكة الجديدة بسبب أخطاء فنية في إنجازها، ووصلت إلى كل البيوت لكنها مازالت تضخ الهواء فقط.. لكن المتعهد غادر المدينة غير آبه بأحد، وتسلم مشروع قرية مجاورة.. وإحدى النكات التي يرددها أهل المدينة تقول إن وحدة المياه لا تعرف مواقع السكر الرئيسي والفرعي للشبكة، كذلك مراقبو الشبكة يفتحون أقفالها متى يشاؤون ولمن يشاؤون.. وبعض الأحياء لم تصلها المياه طبعاً عن طريق الشبكة القديمة منذ أكثر من أسبوع.. والأدهى من ذلك، وفي شكوى يتبادلها أغلب سكان الريف، أن المواطنين يتسابقون لاقتناء (الشفاط) الأقوى، وصاحب الشفاط الأضعف سيبات ليلته حالماً بماء لن يجود به صنبور المياه.
منذ أيام قليلة أصبح دور المياه كل ثلاثة أيام مرة، أي أن المياه التي ستصل للمواطن لن تكفيه حتى دوره القادم وبعض الأحياء شهدت شجارات ومشاكل بين الجيران على الماء.. ولوحظ في الآونة الأخيرة عودة المياه إلى أصحاب الصهاريج الخاصة، ولكي تحصل على خمسة براميل يجب أن تنتظر رحمة صاحب الصهريج وتحكمه بأسعار الماء.. فكل خمسة براميل بمائة /100/ ليرة سورية، والله وحده يعلم مصدرها، وإن كانت صالحة للشرب أم لا.. كما وشهد رأس النبع ازدحاماً على (الصنبور) الذي يثق الناس به كماء صالح للشرب، وهذه تعتبر موجة مبكرة من التسابق على الماء في مدينة تعتبر غنية بالماء لقربها من جبل الشيخ وساهم الموسم الشحيح وعدم تساقط الثلوج في التسريع بها.
أما من الأسباب الهامة أيضاً هو التعدي على الشبكة من بعض سكان مناطق المخالفات.. وكسر لبواري نقل الماء فالمؤسسة (وحدة المياه) لا تريد تخديم هذه المناطق والناس يتحدثون عن حقهم في مياه الشرب كغيرهم من أبناء البلدة، ويبررون بذلك تعديهم على الشبكة التي لم تعد تحتمل، وهذا جزء من التوزيع الجائر وغيرها العادل لثروة الناس فيها جميعاً شركاء.

جرمانا المتضخمة

جرمانا هي أيضاً من أكبر مدن ريف دمشق من حيث عدد السكان، وقد شهدت السنوات الأخيرة ازدياداً مخيفاً لعدد السكان بسبب توافد الأخوة العراقيين، ومشاكل المخالفات العشوائية في المدينة.. وهنا يشكل موضوع توزيع المياه عامل همّ للسكان.. فالآبار تكاد لا تكفي هذه التضخم.
المواطن (م.دانون): بعض الأماكن التي كانت أراضي زراعية وثم تم الاعتداء عليها بالإسمنت والمخالفات مثل (الحمصي، كرم الصمادي، القريات)، مازالت المياه فيها مقبولة، فهي تجري في الأنابيب يوماً كاملاً كل ثلاثة أيام، وكذلك ساهم انقطاع الكهرباء في عدم ضخ المولدات للماء في أوقات مناسبة ومنظمة..
وكغيرها بدأت (جرمانا) تطارد صهاريج الماء.. وهنا الحالة أصعب من غيرها.. فالماء ليس متوفراً بغزارة وسعر خزان الماء /5/ براميل يتجاوز الـ/200/ ليرة سورية..

الشفاط سيداً

في قرية العادلية التي تنتمي كنموذج الريف الكامل مواصفاته.. بدأت المياه بالتراجع.. ورغم الآبار الكثيرة التي تم مدها والخزان الجميل الذي بني في وسط البلدة على رأي المواطن (؟)، إلا أن هذا الماء لا يسقي الناس ويدخل بيوتهم إلا ساعتين كل ثلاثة أيام، والشفاط هو سيد المعركة في جمع الماء.. فكلما كان الشفاط جيداً وغير صيني، كلما استطعت أن تملأ خزانك وبرميلك وما شئت من أوان.
يتابع المواطن: منذ عام 1990 وحتى الآن حفر في القرية ومحيطها أكثر من /19/ بئراً.. أغلبها جف كلياً، وما تبقى لا يكفي لتلبية حاجات الناس.. والبئر الذي كان يمنحنا بعض مياهه لا يعيش أكثر من شهر (الأعوج).. والبئر الأخير الذي تم حفره على عمق /250/ متراً استطاع أن يضخ (إنشاً واحداً)، أما سعر الصهريج الذي يتسع لـ /25/ برميلاً فيصل إلى /250/ ليرة سورية، وكل خمسة براميل بـ/75/ ليرة.

في القلمون (بح)

المواطن (حس سعد) من قرية الرحيبة، يترحم على الماء الذي كان آباؤه وأجداده يشربونه.. والماء حالياً يبدو أنه يسير إلى نضوب دائم لا ري بعده.. وكل /15/ يوماً تأتي المياه متقطعة وخجولة، ويتحكم فنياً أصحاب الصهاريج حالياً، وكل صهريج يصل سعره إلى /250/ ليرة سورية كحد أدنى، وهي مياه آبار، إذ لا يوجد مسيلات أو أنهار في منطقتنا، وموسم الأمطار لم يساعد على تخزين أي كمية من المياه منذ سنوات عدة..
دمشق ليست أفضل من ريفها

واقع الماء في المدينة الأم (دمشق)، ليس بأفضل ولا أقل وطأة على الناس، فالنبع الكبير (عين الفيجة) في حالة يرثى لها، كذلك (بردى) يحتاج لمرثية طويلة بعد أن بات مسيلاً شبه جاف معظم شهور السنة، والعاصمة تضخمت عمرانياً وبشرياً دون أن (يتضخم)، ولو بالحدود الدنيا، مستوى البنى التحتية فيها، وبالتالي أصبحت مشاكلها الخدمية أضعافاً مضاعفة في شتى المناحي.
ويتذكر الناس اليوم، وبحسرة شديدة، عندما كان نبع الفيجة يروي المدينة وأطرافها وقراها القريبة، وكانت الصنابير (السبيل) في كل حارة، وهي مشاع، بل وحق شرعي لكل من يجف ريقه، أما الآن فحتى مياه السبيل لم تعد موجودة..

ركن الدين

صلاح دوابي يسكن في الشيخ خالد يقول: «تصلنا مياه الشرب كل يوم بين (2 ـ 3) ساعات فقط، وبالكاد نملأ (القناني) البلاستيكية، وما يتوفر لدينا من أوان نحاسية وبلاستيكية، ويزيد الطين بلة.. أن الصهريج لا يصل إلينا، فـ (الحواري) ضيقة، والمنطقة التي نسكنها مرتفعة، وهذا حال كل منطقة (ركن الدين والشيخ ابراهيم).

كفرسوسة

في منطقة (الوان) في كفرسوسة يسكن (أحمد دحلة).. يقول: «الماء يشكل عبئاً اقتصادياً علينا فتكلفة شراء الماء تحتاج إلى عمل إضافي، كل خمسة براميل بـ/100/ ليرة.. ومنذ يومين لم تعد تصلنا المياه، وخصوصاً في هذا الحر الشديد، وفي ظل انقطاع متواصل للتيار الكهربائي في الحي.

مزة 86

في هذا الحي العشوائي الكبير تكمن الطامة الكبرى، حيث الازدحام السكاني الشديد.. البيوت المتراكبة فوق بعضها البعض في حالة من الفوضى، قساطل وأنابيب مياه مختلطة.. ونساء وأطفال حاملين (الكالونات)، وصهاريج تفتح المياه إلى الطوابق المرتفعة.. ورحلة بحث مضنية تزيد العطش عطشاً.
(خ. يوسف) من سكان مزة (86) يقول: «قد أحتاج لأكثر من ساعتين لأجد صهريجاً.. وهذا موسمهم.. ولا بدّ من الرجاء والتمني.. وربما تحتاج إلى موعد.. وبعض أصحاب الصهاريج اقترحنا عليهم أن يكون لديهم سكرتيرات».
المسؤولون والذرائع الواهية

لا ينقطع مسؤولو المياه في بلدنا عن التبرير لما يجري، بدءاً من التذرع بالموسم الشحيح وانتهاء بالاعتداءات المتواصلة على الشبكة، وسوء تنفيذ الشبكات، والفاقد المائي الذي يصل إلى (50%) حسب إحدى المسؤولات في وزارة الإسكان.. إلخ.. لكنها في المحصلة أسباب تصب في خانتهم ولصالحهم أمام رؤسائهم.. فسوء تنفيذ الشبكات على الغالب، يعود لإصرار مؤسسات المياه على اعتماد متعهدين أثبتوا فشل مشاريعهم، أما الاعتداءات على الشبكة، فيعود إلى الحزام الهائل لمخالفات البناء، وهذا ليس ذنب المواطن الذي لن يستطيع الحياة دون ماء.
والسؤال الهام هو: لماذا تترك هذه المؤسسات التي لا تفتأ تتحدث عن مشاريعها الهامة والاستراتيجية لأصحاب الصهاريج الخاصة حرية البعث بجيب المواطن وحاجته؟ لماذا لا تقوم هي بتأمين المياه للمواطنين بأسعار عادية ومن مصادر موثوقة تجنباً لأية أزمة تلوث قد يذهب ضحيتها أطفال أبرياء؟؟ هل يسعى البعض في هذه المؤسسات إلى توجيه ضربة قاضية للثقة المزعزعة أصلاً بالحكومة والمسؤولين فيها؟؟
إن الفاقد المائي الكبير يعود لأسباب في مقدور مديريات الصيانة والتفتيش في تلك المؤسسات تلافيها، سواء أكان هذا الفاقد فاقداً فيزيائياً نتيجة سوء التنفيذ، أو فاقداً طارئاً سببه الاعتداء على الشبكة من الفقراء الذين لا تصلهم المياه، أو من متنفذين لا يجرؤ أحد على مساءلتهم أو محاسبتهم أو ردعهم عن اعتداءاتهم السافرة والدائمة على الشبكة..
الأزمة في تصاعد مستمر.. والناس بدأ العطش يجفف أرواحهم قبل حلوقهم.. والمؤسسات المعنية توالي إصدار التبريرات والذرائع الواهية، عسى أن تجد فجأة المشكلة قد انتهت بقدرة قادر.. أزمة المياه سوف تثقل كاهل الدولة والمواطن على حد سواء.. وهي مسؤولية مشتركة آن لنا أن نتحد لحلها.. ويبقى المواطن الطرف الأضعف في تلك المعادلة كونه الأكثر التصاقاً ببلده الموشك على الجفاف.