مكاتب قبول القمح...سمسرة علنية
الزغاريد شقت طريقها إلى مسامعنا، عبر الشتائم وضجيج الجرارات، لحظة صمت، تليها التهنئات. ليس هذا حفل عرس أو خطوبة، وهذه التهنئة ليست لمرشحي اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين لعضوية مجلس الشعب، الذين حوربوا فقط لأنهم قرؤوا الواقع قراءة سليمة، وتمسكوا بالوطن. وليست لطلاب كلية الإعلام الذين نجحوا بمقرر دراسي بعد استعصاء طويل، وليست لمن حلموا بوظيفة «مبروك نجحت»، هذه السخرية المرة، والزغرودة اللاذعة، لفلاح تم قبول قمحه في مكتب حبوب قلعة المضيق (أفاميا)!!
يدخل الجرار عبر بوابة الصوامع، محملاً بعشرة أطنان من القمح، بعد انتظار عشر ساعات. قلب الفلاح يخفق، ولسانه يلهج بالأدعية، وخليط من التذمر والتهديد. صورة رجل يرسم المرحلة.
عينة القمح في يد الخبير، حفنة أو حفنتان لا فرق. وبأصابعه الماهرة يلتقط ست حبات قمح ملونة، لو كانت خمساً، لنال رضى الوالدين، أما أن تكون نسبة التلوين ستة بالألف، فلن يرضى عنك أحد، وهذه جريمة اقتصادية بحق الوطن.
أصابع ماهرة؟! أم أياد مخربة، امتدت لتطال رقاب الفلاحين؟ ست حبات ملونة تسبب تسمماً غذائياً! أما خمس فمسموح بها صحياً. وخبز الأفران الريفية المحشو بحشرات السونة والهدايا المفاجئة، لا يسبب تسمماً!؟
كرافتات شامية، وفد مركزي من ربطات العنق، يصحبها بعض الرجال، جاؤوا للوقوف على سير العمل ميدانياً. والحشود المترقبة، تنتظر الفرج، لكنه لن يأتي. فبعد الجولة والإطلاع على عملية التسويق، نطق صاحب الكرافيت الملونة إن نسبة التلوين المسموح بها، يجب أن تكون خمسة بالألف، بدلا من عشرة، حينها صفق له أصحاب معامل الأعلاف الخاصة وبعض المستفيدين. وبسره حدث نفسه، وتمنى أن يسمعه الحشد، فقط لو كان على متن طائرة: ( أيها الفلاحون! حلوا عنا أنتم وزراعتكم المتخلفة، فهي ليست قاطرة نمو). وجاء الرد من الصفوف الخلفية مغايراً: مخربين، جماعة خدام، متآمرين على البلد. وبعض العيارات ذات المدى القصير.
رحلت ربطات العنق، يصحبها الرجال، وعلى رأسهم مدير التسويق. ولأن الحل يلزمه اجتماع مجلس الوزراء، حل ربطة عنقه، واتكأ داخل سيارته المكيفة براحة ضمير، وقد أنهى مهمته بنجاح .
يتحلق المحتشدون حول موظف قبول العينات، بعد فرزه لبضع حبات من الحنطة قائلاً إنها سامة، فيلتقطونها ويلتهمونها، وهم يقولون: أكلنا خبز الشعير والذرة، والآن نأكل الخبز المحمض والمحروق، وتقولون تسمم؟!
ويتابع أحدهم قائلاً: إن ما يجري يخبئ وراءه أشياء رهيبة لا نعرفها، ما ذنبنا، إذا كانت الأمطار الغزيرة خربت محاصيلنا؟! من أين نأتي بحنطة خالية من التلوين؟ هذه كارثة أصابتنا، وعلى الدولة التعامل مع حالات الكوارث، بشيء من الجدية والمسؤولية. إن لم تستلم الدولة هذه المحاصيل، فأين نذهب بها؟ فمجرد وصولها إلى مركز تسويق الحبوب يكلفنا من3 إلى 4 آلاف ليرة سورية أجور نقل وعتالة.
تم قبول 70 جراراً من 100، والباقي تم رفضها، ومعظمها لفلاحي سهل الغاب، الذين أطاحت بمزروعاتهم الأمطار الأخيرة.
يقول خبراء العينات: طالتنا عقوبات وغرامات بسبب التساهل، وغض النظر في التعامل مع الفلاحين، لذلك سنكون حذرين في هذا الموسم. ويقول آخر: هذه التعليمات من فوق، ونحن ننفذ الأوامر .
فلاح يقول: التسعيرة ارتفعت (ويقصد الرشوة)، بسبب التشديد ومحاربة الفساد، فالمزارع يسوق مرة واحدة، والتاجر يسوق عشرات المرات، والقمح المرفوض، يشتريه التجار ليسوقوه في المكان نفسه. وآخر يقول: رفضوا لي حمولة ثلاثة جرارات، فأجبرت على بيعها إلى تجار الأعلاف بسعر عشر ليرات للكيلو، فكانت خسارتي 25000 ليرة سورية.
أصوات تقول: سنوصل هذه الممارسات ومحاربة الفلاحين، إلى أعلى المستويات، بل سنوصلها إلى الرئيس .
صوت آخر: هذا الذي يقولون عنه اقتصاد السوق الاجتماعي. وصوت آخر: سيحلون مشكلة الأعلاف على حسابنا؟ (من دهنه واقليه) العلف المغشوش سعره 15 ليرة سورية، والقمح بعشر ليرات؟ هذا ظلم يا بلد!
مندوبو التسويق بدا عليهم الغيظ الشديد والتعاطف والحسرة ،لأن لا أحد يسمع صوتهم، وأيدوا الأصوات المنادية بوقف التسويق، احتجاجاً على رفض قمحهم. وأشاروا إلى أن المراكز الثلاثة في شطحة – السقيلبية – الزيارة، متوقفة، لأن المزارعين امتنعوا عن تسويق محاصيلهم.
يقترح أحد المواطنين إحداث درجة خامسة تضاف إلى الدرجات الأربع في مقياس قبول مادة القمح، ويخصص لها خلايا تخزين في الصوامع أو يتم تحويلها مباشرة إلى مؤسسة الأعلاف. وهذا الإجراء يحول دون تحكم القطاع الخاص بسعر القمح المرفوض من قبل مكتب الحبوب.
ما يجري الآن، ترجمة حرفية للتوجهات الليبرالية للحكومة واقتصادها الحر، وهذه خطوة من خطوات رفع يد الدولة عن كل مقومات صمودها وتماسكها الاجتماعي. فبعد موجات الخصخصة للمنشآت الصناعية وتصفيتها، مروراً بالتجارة الخارجية، واحتكار التجار لهذا القطاع، جاء دور الزراعة ومنشآتها، لتصبح الدولة مكشوفة الظهر، ليطعنها من يشاء. وان كان وزير المالية، يريد عبر خطته رفع الدعم تدريجياً وبمعدل10%، فالحال عند مكاتب تسويق الحبوب متقدمة عليه بأضعاف . ورفع يد الدولة عن القطاع الزراعي، بدأ برفع أسعار البذور الزراعية والأسمدة، إلى عدم المسؤولية عن تأمين مياه السقاية، مروراً بتهميش دور الاتحاد العام للفلاحين. وإن تخفيض مساحة زراعة القطن، وتصفية معامل الكونسروة، لنصل إلى التخلي عن استلام المحاصيل الزراعية الإستراتيجية، لنطيح بالأمن الغذائي، الذي طالما ناضلت الأجيال السابقة لتحقيقه. فهل هناك من يخطط لاستيراد القمح بأسعار مدعومة امريكياً؟ لتصبح البلد رهينة رغيف الخبز؟.
■ يامن طوبر