عود على بدء.. لماذا الدَّعم؟ ولـمن يُقدّم؟ مسألة «الدَّعم» في السياسات الاقتصادية الكلية (2-2)
من بين أهم السياسات الاقتصادية التي يوصي بها برنامج التحول من نظام قائم على التوجيه المركزي للاقتصاد، يكون فيه للدولة دور اقتصادي بارز، إلى نظام اقتصاد السوق الحر، استبعاد دور الدولة في إعادة توزيع الدخل الوطني من خلال سياسات دعم أسعار السلع الحياتية والاستراتيجية والخدمات والتحويلات الاجتماعية، رغم أن هذه الأمور لم تتخل عنها الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة حتى الآن، خاصة وأن تلك الدول ما زالت تتحكم في إنفاق نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي بلغت عام 2005 نحو 46.1 % في فرنسا و44.2 % في اليونان و40.2 % في كرواتيا ونحو 42.3 % في بلجيكا ونحو 40 % في هولندا وذلك وفقاً لبيانات البنك الدولي في تقرير التنمية لعام 2007. ومع ذلك نجد أن الفريق الاقتصادي في سورية مايزال يضغط باتجاه تقليص دور الدولة، لا بل انسحابها نهائياً من الشأن الاقتصادي والاجتماعي، ونجد ذلك واضحاً من حجم الحكومة الذي تعكسه نسبة الإنفاق العام إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمر الذي يوضحه تقرير صندوق النقد الدولي (تقرير خبراء الصندوق 13/7/2007) الذي يشيد باستجابة الحكومة إلى توصياته، حيث يقرر هذا التقرير أن نسبة الإنفاق العام (بشقيه الجاري والاستثماري) إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت عام 2003 (31.4 %) وحافظت على مستواها في العام التالي 2004، أما في 2005 فقد انخفضت إلى 28.4 % ثم انخفضت مرة أخرى إلى 27.6 % عام 2006، وقدرها الصندوق عام 2007 بـ 27 %.
أعتقد بعد هذه الأرقام التي يوردها صندوق النقد الدولي بافتخار، لا تستطيع الحكومة، أن تقول إنها تحافظ على دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، فالأرقام تبرز بما لا يدعو إلى الشك صحة ما يشعره كل مواطن في هذا البلد، بأن الحكومة تفسر قرار القيادة السياسية بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، بما يرضي توجهاتها الاقتصادية المنسجمة مع توجهات (توافق واشنطن) وليس المنسجمة مع رغبة القيادة السياسية أو تطلعات جماهير الشعب.
ولهذه النتيجة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي تمس هيكلية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تلك الهيكلية التي بنتها ثورة الثامن من آذار 1963، والحركة التصحيحية 1970، والدستور ومبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة ومؤسسات ومنظمات النظام الذي قام أصلاً على أكتاف العمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود والكسبة وصغار التجار والصناعيين والحرفيين، فيما دُعي بالتعددية الاقتصادية.
وهنا نتساءل: من يا ترى سيكون الحامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للنظام الجديد الذي يريده الفريق الاقتصادي أن يتولى حمل مسؤولية النظام؟ وما هو مصير الحملة التقليدية للنظام؟ وما هو مستقبل التعددية الاقتصادية؟
إذاً.. فمسألة تخفيض الدعم، تمهيداً لإلغائه، ليس لها علاقة لا بعجز الموازنة، ولا بارتفاع أسعار المواد عالمياً، ولا بأزمة الاقتصاد العالمي، إنها تتعلق فقط بالسياسات الاقتصادية الكلية والسياسات المالية التي يحددها برنامج الإصلاح الاقتصادي (غير المعلن) للفريق الاقتصادي الذي وضع من خلال الوصفات الجاهزة (لتوافق واشنطن) ومن خلال نصائح الاتحاد الأوربي.
الفقراء، والطبقة المتوسطة، والصناعة الوطنية، ليس لكل هذا مكان إلا في الصفوف الخلفية لهذا البرنامج حيث يتحول هؤلاء جميعاً إلى وقود لقطار العولمة الذي على سورية اللحاق به قبل فوات الأوان كما يريد الفريق الاقتصادي.
يدَّعي الفريق الاقتصادي (وهو الذي يملك حق فبركة الأرقام) أن إبقاء أسعار المازوت كما هي يكلف خزينة الدولة أكثر من 300 مليار ل.س وهو يستند في حساب ذلك إلى الأسعار العالمية للنفط. وهذا أمرٌ غاية في الغرابة. فالنفط منتج وطني في أغلب كمياته، وهو ثروة وطنية مالكها الوحيد هو الشعب. فكيف بالله نحاسب الشعب على استخدامه لممتلكاته انطلاقاً من الأسعار العالمية؟
وقد طالبنا مراراً أن يقدم الفريق الاقتصادي بشفافية ما يمكن دعوته بالميزان النفطي.. الذي يتضمن في جانب إنتاج النفط ومشتقاته ومستورداته وفي جانب آخر، تصدير النفط ومشتقاته ومبيعاته المحلية. وذلك بالكمية والقيمة. والقيمة هنا تشمل تكاليف الإنتاج الفعلية وفقاً لحسابات نظامية وليس حسابات تقديرية مبنية على أساس الأسعار العالمية التي تستخدم فقط في حال التصدير والاستيراد.
من جهة أخرى، وعندما نقول إن السياسة المالية محابية للأغنياء فإن ذلك يمكن إثباته بالوقائع التالية:
- طالما صرح المسؤولون أن التهرب الضريبي يصل إلى 200 مليار ل.س (وهذا الرقم هو مقدار العجز المقدر في موازنة 2008).
- خفض الحد الأعلى للرسوم الجمركية من 255 % إلى 60 % لمواد عديدة أهمها السيارات التي أغرقت البلد وطرقاته.
- خفض متوسط التعرفة الجمركية من
20 % إلى 14.5 % وعلى المواد الأولية إلى 1 %.
- ألغيت ضريبة التركات.
- خفضت ضريبة المشاريع الاستثمارية والشركات المساهمة إلى 14 %.
- أُلغيت (تقريباً) ضريبة تداول العقارات مما شجع على المضاربات العقارية.
وقد نجم عن ذلك تخفيض نسبي للإيرادات من الضرائب. وهي أهم مصدر للإيرادات العامة.
ومع ذلك فإن حصيلة الرسوم الجمركية عام 2006 لم تتجاوز 17.2 مليار ل.س. مما يعني أن متوسط الرسوم الجمركية بلغ 3.2 % (قيمة المستوردات بحدود 531 مليار ل.س).
بينما متوسط الرسوم الجمركية يقدر بـ
15 %، مما يعني أن حصيلة الرسوم الجمركية يجب ألا تقل عن 80 مليار ل.س، بينما هي في الواقع 17 مليار، فأين ذهبت باقي الرسوم؟
ومن جهة أخرى، فإن مجموع ضرائب دخل المهن للقطاع الخاص بلغ 37 مليار ل.س، بينما يُسهم هذا القطاع بـ 60 % من الناتج المحلي الإجمالي، وبما أن العبء الضريبي (حسب تقديرات وزارة المالية) يبلغ 18 % فإن حصيلة الضريبة يجب ألا تقل عن 185 مليار ل.س، بينما ما تم تحصيله هو 37 مليار ل.س فقط. وبالتالي فإننا نفهم من هذه الأرقام، لماذا يظهر العجز في الموازنة العامة.. ذلك العجز الذي يريد الفريق الاقتصادي تغطيته عن طريق رفع أسعار المازوت تمهيداً لإلغاء الدعم عن هذه المادة الحساسة والهامة. علماً أن رفع أسعار المازوت، يصور من الفريق الاقتصادي أنه مادة يحتاجها الفرد العادي للتدفئة، ولا يطرح هذا الموضوع من حيث تأثير رفع أسعار المازوت على تكاليف النقل والزراعة والصناعة. إذ يتصاعد التأثير المضاعف لارتفاع تكاليف إنتاج المنتجات الزراعية والصناعية والخدمات مما يشجع عوامل التضخم ويقود إلى المزيد من البطالة.
إن للدعم المقدم لأسعار بعض السلع الحياتية والاستراتجية، وظائف اجتماعية واقتصادية هامة، لا يمكن الاستغناء عنها. ويصح هذا فيما يتعلق بمعيشة السكان، كما يصح في الدور الذي يلعبه في دعم الصناعة والزراعة والخدمات وإنتاج الطاقة الكهربائية. وربط مسألة الدعم بعجز الموازنة، فضلاً عن كونه غير حقيقي، فإنه يتجاهل حق الشعب وخاصة الفقراء ومحدودي الدخل في التمتع بموارد البلاد الطبيعية.
عندما كنا نقول «بالتمكين قبل التحرير» كنا ومانزال نعتقد أن تعزيز القدرات الاقتصادية، وخلق الشروط المناسبة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يجب أن يتحقق قبل تحرير التجارة الخارجية والانفتاح والالتحاق بالاقتصاد العالمي.
فأن يكون اقتصادنا قوياً وقادراً على مواجهة التحديات والصدمات الخارجية هو أمرٌ طبيعي. ذلك أن الاقتصاد الضعيف غير قادر على مواجهة التحديات الخارجية، ومن السهل اختراقه من الخارج، وبالتالي فإن تأثير الأزمات الخارجية وتقلبات الأسعار العالمية يكون ضعيفاً كلما كان الاقتصاد الوطني قوياً وكلما كانت درجة انكشافه على الخارج ضعيفة.
آن الأوان لإعادة النظر بجدية في السياسات الاقتصادية الكلية وفي السياسات المالية التي ينتهجها الفريق الاقتصادي بالعودة إلى البدء، إلى التحليل العلمي لواقع الاقتصاد الوطني، ووضع برامج الإصلاح انطلاقاً من هذا الواقع مع النظر إلى المستقبل بروح العصر، دون إهمال أو تجاهل لتطلعات الأغلبية الساحقة من شعبنا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية، والمحافظة على المكتسبات التاريخية التي حصلت عليها الفئات الاجتماعية الفقيرة والمحدودة الدخل والفئات المتوسطة المهددة بالانسحاق.