كيف أصبحت شيوعياً؟
ضيفنا لهذا العدد الرفيق جمال صالح سعيد
الرفيق المحترم جمال كيف أصبحت شيوعيا؟.
تأخرت بالإجابة عن سؤالكم لسببين: الأول هو الركض وراء مستلزمات الحياة اليومية، والثاني شعور عميق بالإحباط،يقف وراءه تاريخ من الهزائم والانكسارات التي طالت وبأشكال مختلفة الكثيرين _ إن لم أقل كل الدوائر السياسية الفاعلة منها والحالمة.. والإجابة الصادقة والمفيدة عن سؤالكم تحتاج إلى كتاب لا إلى مقال.! إنني ما زلت أكابر وأدعي أنني لم أصل بعد إلى العمر الذي أكتب فيه مذكراتي بغض النظر عن قيمة أو أهمية هذه «المذكرات» ولهذا سأشير إلى بعض المحطات لعلاقتي «بالسياسة» أو لعلاقتها بي.
أنا من مواليد قرية «كفرية» باللاذقية عام 1959 إبان مرحلة المد القومي التي حمّلتني اسمي «جمال»، وحملت العديد من لداتي أسماء متيمنة باسم رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك (ناصر أو عبد الناصر أو جمال عبد الناصر.. دفعة واحدة).
فتحت عينيّ على حب بل تمجيد عبد الناصر الذي وصفته (إذاعاته) بأنه رائد القومية العربية، وبطل السلام العالمي، وقائد الوحدة، وزعيم الأمة، و... ومتأخرا قليلا اكتشفت أن دولة الوحدة لم تنجز بالنسبة للإقليم الشمالي (سورية)، إلا تخريب الحياة البرلمانية والحياة السياسية.
انتظرنا انتصارا وعد به عبد الناصر، وانتظرنا حل المشكلة القومية الكبرى واستعادة فلسطين...
لكن ذلك كله انتهى بمعركة خسرنا فيها سيناء والجولان والضفة، واكتشفنا أن القيادات السياسية العربية غير قادرة على حماية الثورة، وأن الثورة ليست أكثر من (عرش للحكم)، وأن الإعلام الرسمي ليس أكثر من جزء من القمع الذي جعل الحياة السياسية والثقافية أقرب إلى اليباس والموات. وبعد هزيمة القيادة السياسية العربية ترتبت مهام جديدة على شعوب المنطقة وبخاصة بلدان المشرق العربي!.
لقد خرجنا من عباءة القضية الفلسطينية_أقصد أنا وأبناء جيلي_ وبعد زمن ليس بالقصير وصلنا إلى أن إسرائيل مخفر متقدم للامبريالية، وأن «الصراع في الشرق الأوسط» ليس صراعا بين مجموعة من المحاربين العرب ومجموعة من المحاربين اليهود، وأن هناك خريطة معقدة للصراع
تجعل بعض العرب (كلابا للأجانب) على حد تعبير الرصافي، وأن هناك مرتكزات للمستعمرين القدامى والجدد داخل بلداننا، وأن لشعوبنا حلفاء في بلدان العالم المختلفة، وهؤلاء مغلوبون على أمرهم .. (قد يبدو هذا القول ساذجا اليوم ولكننا كجيل تعبنا للوصول إليه)! وأذكر أن أول كلام سمعته عن الشيوعية كان من الرفيق حسن الشيخ الذي حدثني عن تجربة اعتقاله في سجن المزة العسكري بدمشق أيام حكم عبد الناصر الذي كنت مغرما به إلى أبعد الحدود، ومع الفورة النفطية وبداية استقرار الدكتاتوريات العسكرية في الحكم، ومع تنامي المد الماركسي في سبعينات القرن الماضي حلمنا (نحن مجموعة من الشبان) بعالم تسوده العدالة، عالم طافح بالحرية، وحاولنا بما أوتينا من نبالة وأحلام تلمس بداية الطريق نحو ذلك العالم، ورأينا في الفكر الشيوعي ملاذا، ولكننا لم نجد في الحركة الشيوعية ضالتنا، فبرامجها السياسية لم تكن مفصلة على قد الواقع، ولأنها أصبحت بلا لون وبلا طعم بعد أن وضعت كل بيضها في سلال السلطات الحاكمة.. وتحولت إلى إكسسوارات تستخدمها السلطات كما تريد (هكذا كنا نفكر) وارتأينا أن نكون حركة شيوعية موازية تسعى إلى فهم الشيوعية كنظرية بعيدا عن مصالح الدول، وتبعا لمصالح الشعوب، وكانت حركة شيوعية جديدة تنبثق وتتطور في أغلب البلدان العربية كالحلقات الماركسية في سورية التي تمخضت عنها رابطة العمل الشيوعي، والحلقات الماركسية في الأردن، ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، وحزب العمال الشيوعي المصري، ومنظمة 23 مارس المغربية.. وغيرها.. كل تلك التنظيمات أصيبت بالموات السياسي لأسباب عديدة أهمها القمع العاري المباشر الذي تعرضت له، ذاك القمع الذي تم بمباركة الحركة الشيوعية الرسمية أحيانا، وبعضها مارس القمع على الحركة الناشئة بلغة جامدة وميتة. ومن المؤسف أن بعض القوى المحسوبة على الشيوعية ما تزال تتحدث بالمنطق الجامد والميت إياه!
كان نصيبي كالكثيرين من أبناء المشرق العربي أن نقضي زمنا طويلا في المعتقلات، وعندما خرجنا من السجن لم تتغير الأشجار والشوارع والبيوت التي نعرفها فحسب، بل كان العالم قد تغير وتسارعت وتيرة الأحداث أكثر مما كان يخطر بالبال!. وأصبحت ظاهرة اليسار الجديد محدودة جدا، إن لم أقل ميتة، وظاهرة اليسار الرسمي لم تكن أفضل حالا!!. أما الحديث عن نفوذ اليسار الجماهيري فلم يعد أكثر من مزحة!!.
صحيح أنني بعيد عن الحياة السياسية، بمعنى أن لا علاقة لي الآن بأي تنظيم سياسي، ولكن حدود اطلاعي على ما يجري تسمح لي بأن أتمنى أن يعمل الشيوعيون على تطوير رؤاهم بما يواكب التطورات التي عرفتها ساحات الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والفلسفة، ومن جهة أخرى عليهم العمل على لعب الدور الممكن بالتساند مع القوى المستنيرة في المجتمع والعمل قدر إمكانهم على مجابهة المخاطر التي تحدق بمنطقة ربما تكون قد قطعت شوطا كبيرا من الطريق إلى الهاوية!!!.