أيلول.. شهر الخيبات والآلام السورية.. الناس تستقبل رمضان، و(المونة)، وافتتاح المدارس.. بجيوب خاوية

في هذه الأوقات الحرجة، سقطت ورقة التوت الأخيرة التي كانت تستر حياء المواطن السوري، هذا المواطن الذي يعامل كحلقة أضعف في معادلات الحكومة، كذلك سقطت ورقة التوت التي كانت الحكومة تظن أنها تستر سوءاتها، سقطت هذه الورقة عن الحكومة بوعودها وتهديداتها وخططها في رفع الدعم أو كما تسميه هي: إعادة توزيعه، سقطت عن أوهام الضرب بقوة على يد المحتكرين، وعن نداء وزارة الاقتصاد إلى الأخوة المواطنين بضرورة الاتصال وتقديم الشكاوى بحق ضعاف النفوس، عن أحلام اتصالات المواطنين، وظلت هذه الورقة تغطي قدرة ضعاف النفوس على تمرير مخالفاتهم عن طريق ضعاف نفوس آخرين.
لبس السوري قبل أيلول، برقع السواد، ووضع شريطاً أسود على صورته، وأفرغ جيوبه ومشى في شوارع مدينته كمن مسه الجنون، لا مدخرات، ولا احتياط، ولا حتى بقية راتب الوظيفة، لقد هجم أيلول بكل قوته واحتياجاته.. والعيون تشتهي كل شيء، وتحلم بكل شيء، ولكن لا قدرة على شراء أي شيء.

صورة من الشارع الدمشقي
يدخل أبو أحمد (بكيسه) العتيق سوق الشربيشات، هذا السوق الشعبي بعنوانه، ثمة عادات قديمة لهذا الرجل.. مع هبوب نسمة باردة، واشتمامه لرائحة رمضان، وموسم المدارس، يستعد ببعض (المونة)، لكل هذه المناسبات.. ولكنه يخرج بنفس (الكيس) فارغاً، ما في الجيب مجرد مبلغ تافه لا يشتري شيئاً، عاد إلى قرينة عمره الشائب، رمى الكيس جانباً، وبكى، كمن مات له ولده البكر، كلمة واحدة يرددها بهذيان: نار.. نار.. نار!!

سوق (المونة):

الخائبون يملؤون السوق، الأغلبية التي اعتادت أن تعدّ للشتاء بعض الاحتياط، المكدوس واللبنة والثوم والبامياء ومربى المشمش والتين،خزائن الفقراء ليوم لا قرش فيه للذهاب إلى السوق، توارثوه من أماتهم اللواتي كن ذات يوم بعيد ينشدن عند تحضير (المونة)، يفرحن للشتاء القادم ببرده، غير آبهات للقمة الصباح للتلميذ الذاهب إلى الدرس، للأب المغادر إلى عمله، ولوجبة (كشك) ذات صباح مثلج.
اليوم، السوق الذي يزداد قسوة، ورقات الأرقام فوق أكوام الخضار (البندورة والخيار) غريبة ومفاجئة، فهي في موسها حيث لا يزيد سعر كغ البندورة على (5) ليرات. يصعقك الرقم الذي يتوسط كومة البندورة (الحورانية) /20/ ل.س، كذلك الخيار، وتستغرب من عدد الشاحنات التي تراها تعبر الطرق محملة من (درعا، القنيطرة، ريف دمشق)، إلى أين تذهب كل هذه الأكوام، أليس من المفترض أن تشق طريقها إلى السوق؟
أما (البطاطا)، معضلة الدولة والناس، تمنع الدولة تصديرها فيزداد سعرها بدل أن يهبط، وقد نشرت إحدى الصحف أنه يتم تهريبها بعد أن توضع تحت بضاعة أخرى، البطاطا تخرج من البلد كأنها بضاعة ممنوعة، بعد أن كان الباعة الجوالون يدقون الأبواب، أما الآن فالكيلو بين 30 ـ 40ل.س.
الثوم أيضاً لم يهبط سعره رغم توافره بكميات كبيرة /100/ل.س س فقط للكغ، (اللوبيا بـ/90/ل.س، البامياء التي كانت أماتها تعلقها بخيوط على جدران البيوت بـ/110/ل.س.. لم يبق من السوق سوى الذكريات، ومن المونة سوى تذكر طعمها أيام زمان.

ارتفاع بالعدوى:

رغم كل المبررات التي قدمتها الحكومة، عن ازدياد السعر العالمي لبعض المواد الأساسية، واعترافها بارتفاع ضرائبها.. إلى أن ما يجري في السوق السورية أمرٌ غريب ويحمل تساؤلات مبهمة..
فالزيوت بكافة أنواعها، المنتج محلياً والمستورد شهدت ارتفاعاً مسعوراً ومزاجياً فسعر علبة لترين (أونا) ارتفع من 150ل.س إلى /175/ل.س، وبعضهم يبيعها /180/ل.س، أما السمون كسمنة الخير عبوة /16/كغ حوالي /300/ل.س من 1200 إلى 1500 ل.س.
أما لماذا أصابت العدوى الشاي بكل أنواعه فالله أعلم، فالكغ الجيد منه والسيئ زاد /50/ليرة سورية، حتى العبوات ذات الماركات المختلفة زادت حسب حجمها /5 ـ 10/ليرات، فعبوة /25/ظرف ماركة (الكرزة) ارتفعت من 25 إلى 30ل.س والـ/100/ من 90 ـ 125ل.س وهكذا.
إذاً لا حارس لأسواقنا، كلٌّ له قانونه وأسعاره، و الضحية هو المواطن الذي فقد الثقة بمن يراقب ما يقدم له، ويعتقد أنه ترك لمواجهة السوق المتوحش وحيداً... هذا كله مع تأكيد وزير المالية (محمد الحسين) أن ضريبة القيمة المضافة لن تطبق على السلع الاستهلاكية واليومية للمواطن ولن تكون عبئاً على شرائح المجتمع وخاصة ما يتعلق منها بالمواد الغذائية والسلع الأساسية.

اللحوم المنسية:

أم خالد تقول: تعودنا على (الأوقية)، المهم أن يشعر الأولاد بنكهة اللحمة في طعامهم، كان الناس زماناً (يمونون) اللحمة والدهون، أما الآن فكيلو اللحمة أصبح دفعة واحدة بـ/500 ـ 600/ل.س، إنه يكسر الظهر، وعندما ستقوي قلبك وتضع مع الوجبة نصف كيلو تغامر بالبقاء بلا طعام لبقية الشهر، لذلك (الأوقية) أستر.. هربنا من لحمة الخروف إلى لحمة العجل، لكنها هي أيضاً ارتفعت، لأننا لسنا وحدنا من هرب إليها، والكيلو منها وصل الآن إلى /350/ل.س...
الأسعار الحالية للحوم البلدية تعود إلى سياسة غير مفهومة للحكومة في توفير القطع الأجنبي، فسورية تعدّ من أكثر البلدان العربية ثروة، وتمتلك قطيعاً من الخروف البلدي تقوم بتصديره وتجلب لمواطنيها (العواس) لأنهم يستحقون التكريم، أما تجارها فيساهمون بقسط كبير من الغلاء ورغم محاولات مؤسسة الخزن والتسويق إنقاذ السوق لم تستطع ذلك فقد تعرضت هي ولحمتها المستوردة من أمريكا اللاتينية لانتقادات حادة رغم طرحها بأسعار معقولة، وهي جزء من خطة الدولة للتدخل حين الأزمات.
أما الفروج وتوابعه (البيض)، وبأقسامه (الرؤوس ـ والأقدام)، وبأحشائه (القوانص، السوداء)، فهبت هي أيضاً ولم تنزل أثناء إعصار (أنفلونزا) الطيور، فالكيلو لم ينزل إلا قليلاً عن المائة ليرة، وارتفعت (السودا) إلى /140/ل.س، ووصل المشوي منه إلى /250/ل.س، أما البروستد فإلى حدود /275/ل.س.
وهكذا يدور السوري باحثاً عن الخضار عسى أن يصير (عاشباً) بدلاً من (لاحم)، إلا أن القصة ليست على هواه، فالارتفاع يطال كل شيء حتى (البقدونس، الكزبرة، الفجل)...

تعليم مجاني حقاً!

سقطت نظرية التعليم المجاني بضربة كوع من طلبات إدارات المدارس، ورفسة الأسعار، ويستهجن (أبو عيسى) ولديه /5/ أولاد في المدارس الحكومية من الابتدائي حتى الثانوي نظرية التعليم المجاني، فالتحضير لاستقبال العام الدراسي يحتاج منه إلى /50/ ألف ليرة سورية.
في أول أيلول تدافع الناس مع رواتبهم إلى السوق (من لديه راتب) ليشتري بدلة المدرسة والدفاتر والأقلام والحذاء الأسود، من أرخص الأنواع قماشاً تتدرج الأسعار من /800 ـ 2400/ل.س هذا إن ذهبت إلى (لوبية) في مخيم اليرموك، أما الحذاء فمن /300 ـ 700/ل.س والمحفظة المدرسية فأنواعها وألوانها ورسوماتها من /250 ـ 1400/ل.س، بدولابين أو بسواهما.
كذلك الدفاتر تتنافس من الهاشمية إلى الحكومية، إلى الملون والسادة، بشريط أو دون شريط، بهامش أو دون هامش، والأطفال بعضهم سعيد وبعضهم يبكي، وعام سعيد لتعليم مجاني حكومي.
تتابع (أم عيسى): وهذا ليس كل شيء، ما إن تفتح المدرسة أبوابها، حتى تبدأ المصاريف، تعاون ونشاط، ثمن أوراق المذاكرات، رحلات قسرية إلى المتحف الوطني واللاذقية ووادي بردى الناشف وهدايا المعلم في عيده.
هذا من حيث المصاريف، أما من حيث التربية والتعليم فحدث ولا حرج، عن الأخطار التربوية والتعليمية والخلاف عن منع الضرب والسماح به، والأستاذ صاحب الكفاءة، والوكلاء الذاهبين والعائدين، وحصص بلا أساتذة.. وأوقات فراغ تقود إلى الشوارع، وهذا بحث آخر..

المدعوم:

هو ليس بعنصر أمن، أو شقيق عنصر أمن أو رئيس بلدية، كما أنه ليس صحفياً له علاقات مزدوجة.. إنه باختصار المازوت.. إحدى مؤن الشتاء الأساسية..
على أبواب (الكازيات) أرتال من السيارات وبعض السائقين يتحدث أنه لم يعمل بالأمس لأنه لم يستطع أن يملأ خزان الوقود.. أما الناس الذين يسعون بالكالون عشرين لتراً، فبالكاد تحصيله.
هي أزمة ليست جديدة ولكنها تصاعدت هذا العام بسبب الحكومة، هذه المرة كانت الحكومة السبب، بإعلان رفع الدعم عن المحروقات.. ثم تراجعها عنه، وهذا ما دفع الناس وأصحاب الكازيات إلى الاحتكار أو الإسراع إلى تعبئة المازوت.
أصحاب الكازيات كعادتهم حلفوا الأيمان الغليظة: «ليس لدينا مازوت»، سيأتي في المساء، ثم يتم ترحيله إلى خزاناتهم التي تم كشف بعضها، أما المواطنون الباحثون عن ملء برميل أو اثنين فيتوسلون الباعة الجوالين المتواطئين مع أصحاب الكازيات ويشترون بسعر أعلى.
تراجع الحكومة الأخير ساعد في تخفيف الضغط قليلاً على الكازيات والمواطنين، الذين تريثوا لشراء أولوية أخرى هي (ثياب المدارس، والكتب والأقلام) والتحضير لموسم المونة..
رمضان الكريم

حتى تاريخه لم يتبين للناس هذا العام، من أي باب سيأتي كرم رمضان مع إيمانهم بالله، فربما تكون الدراما السورية هذا العام أكثر بريقاً..؟ وتنجدنا بمسلسل يذكرنا بالأخلاق الحميدة مثل (باب الحارة)، أو بطل كالمعلم عمر أو نصار ابن عريبي.
موسم آخر يتلاصق مع المواسم المتلاحقة لشهر أيلول هذا العام، ما إن تبدأ المدارس استقبال الأطفال والطلاب حتى يبدأ (رمضان) موسم تحضير جديد.
اللبنة والجبنة، مربى المشمش (الشنكليش) والزعتر، قمر الدين من أجل السحور، ثم ما لذّ وطاب كما اعتاد الناس على وجبة الإفطار ولكنها على رأي (أبو أحمد): «نار..نار».
تكثر العزائم (الدعوات)، ولا بد من طاولة طعام منوعة، ووجبة رئيسية (المحاشي والشوربات، ورق العنب (اليبرق)، إضافة إلى المقبلات (الفول، التسقية الفتة)، المشروبات (العرق سوس، العصائر، التمر هندي).
من أين سيأتي المواطن الذي يلقّب (السوري) بكل ما تقدم في ظل ما تقدم من أسعار ومواسم وغلاء وحكومة لا تراقب أحداً، وتعد بعدم المساس بلقمة الناس وستضرب المحتكرين بيد من حديد وسترفع الدعم في نفس الوقت.
كل هذه المواسم تترافق مع أزمات أخرى ربما ستبدأ بالتضخم والاستعصاء بعد أيام، وعلى رأسها أزمة النقل، فسيعود الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم وسيدخل الشتاء بعد حين، وسيصبح مثلاً (كراج السومرية) مركزاً للتدافع وقوة الاحتمال في تأمين مقعد في باص أو (سرفيس)، وستعمل بعض الشركات بأقصى طاقاتها لاستغلال الأزمة، وستملأ باصاتها بالسوريين المحشورين (كالمكدوس) الذي لم يستطيعوا له سبيلاً هذا العام بسبب غلاء الباذنجان والجوز.
وربما تعود أزمة الوقود للانفجار، إذا أقدمت الحكومة على اتخاذ قرار متسرع برفع الدعم ووزعته بآلافها الإثني عشرة على دفعتين بعد أن تكون كما تقول قد أنجزت حواراً مستفيضاًَ مع الناس وأصحاب الاختصاص..
أيلول.. موسم المواسم القاهرة.. المواطن أرهقته الوعود والأعمال، وحكومة أثبتت حتى اللحظة فشلها في إدارة المشروع الاقتصادي السوري، على الأقل ما يتعلق بأصحاب الدخل المحدود، والعاطلين عن العمل الذين سيشكلون إذا استمرت الأحوال هكذا جيشاً من الجياع.. أيلول اعتدنا قسوتك لكنها في هذه المرة، تبدو كسنة كبيسة.