على أبواب احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية /2008/ مدينة للثقافة.. مزنرة بالفقر والدخان

قبل القدس وبعد الجزائر، دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008، من هنا تحركت كل الجهات الرسمية لتكون هذه المناسبة دعوة لإعادة المدينة الأقدم لنضارتها، بدءاً من المرسوم التشريعي بتشكيل الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وتنادي كافة المسؤولين لدعمها، فرئيس الوزراء أطلق حملة تحت عنوان (مدينة الياسمين، عز الشرق، وحاضنة العروبة)، كذلك أعلنت الأمانة العامة للاحتفالية عن دعمها للمشاريع الفنية المسرحية والسينمائية والرسوم المتحركة من خلال تقديم منح للمشاريع المقدمة لإنتاجها بمناسبة الاحتفالية.
كل هذا الاهتمام تكلل بتحرك محافظة دمشق لإنجاز المشاريع النائمة، ومحاولة لتحسين ما يمكن تحسينه من الوجه البائس الذي وصلت إليه المدينة العريقة، شهران وتدخل دمشق ولمدة عام هذه الاحتفالية، فهل ستتمكن المحافظة من تبييض وجه المدينة وإعادة بعض الرونق الجميل لما انتابها من عقود الإهمال.. ولكي لا أكون متشائماً كما أتهم، ونذير شؤم، أعتقد أنني بالأمس شاهدت حالة رفيعة من التألق لا أدري إن كانت مقصودة أو أنها جاءت عفواً، أم هي بداية خطوة ستنتهي بما اعتدناه، أمام نهر الحزن (بردى)، ثمة حديقة جميلة تم هدم سورها، وإطلاق حريتها، أي أن محافظة دمشق لم تعد تؤمن بالحديد لتسوير الحدائق العامة وهذا ما يعطي انطباعاً بالحرية، كذلك تم إزالة المنصفات الحديدية من وسط شارع الأركان في خطوة أتمنى أن تصب في خانة صنع منصف من ورد، كما شارع المحافظة، لننسى قليلاً أوتاد الحديد والجنازير التي تفصل الشارع عن الرصيف، وبالتالي تخلق مواطناً لا يدوس الورد، و يقطع الشارع من المكان المخصص له، وتضفي بعض الخضرة والجمال على شوارعنا السوداء.

حزام الفقر البائس ليست دمشق مجموعة من الشوارع الرئيسية فقط، كشارع الثورة والصالحية والمالكي، وبعض المناطق الهامة (كالمزة، مساكن برزة، ركن الدين)، دمشق مدينة تضخمت أضعافاً هائلة، حول المدينة الحديثة والقديمة، ثمة ضواحي من الورم المنفلت من عقاله، أكوام من الإسمنت البشع، تراكم بشري من كل محافظات القطر، شكّل حزاماً فقيراً، ومخالفات استهلكت جهوداً كبيرة لتخديمها على حساب المدينة العاصمة. وليست هذه المناطق بنسبة ضئيلة لكنها تشكل 60% من دمشق، في سوار حزين وفجائعي وبائس، ولا يمكن التعامل معه إلاّ كأمر واقع أوجدته بعض الظروف الصعبة، من هجرة الريف إلى المدينة، البحث عن العمل والوظيفة، جشع البعض في السماح لهذه الكتل بالتوسع مقابل غض الطرف، ورغم صدور القانون رقم /1/ للعام /2003/ إلاّ أن هذه المساحات تزداد يوماً بعد يوم.
وعلى كل الصعد يحيا هذا الحزام الفقير واقعاً اقتصادياً مريراً، من الموظفين ذوي الدخل المحدود، والعمال اليوميين، والعاطلين عن العمل، وبالتالي هذا الواقع الاقتصادي، خلق واقعاً اجتماعياً سيئاً، من انتشار للجريمة والدعارة، وأصبحت مركزاً للأعمال الخارجة عن القانون ومرتعاً لإنتاج السلع المزورة، وبالتالي أضافت عبئاً ثقيلاً على الدولة والمجتمع. من هنا لا يمكن فصل دمشق عن محيطها المزري، فهؤلاء يدخلونها متى شاؤوا، باحثين عن فرصة عمل، أو علىعرضي، أو يمدون بسطاتهم وصناديق (البويا)، أو يبيعون الدخان المهرب، أو يمارسون التسول أو السرقة، عدا عن هشاشة البنى التحتية لأماكن سكنهم، واعتداء بعضهم على شبكات الماء والكهرباء والهاتف، وهذا لا ينفي مسؤولية الدولة في تأمين احتياجات هذه التجمعات. رئة مختنقة مازاد الطين بلة، وساهم في اختناق المدينة الرحبة، أنه مقابل هموم حزام الفقر الإسمنتي، تراجع حزام الغوطة الأخضر.. الرئة التي كانت تتنفس منها دمشق، غير مبالية بالأدخنة والغبار، وغير آبهة بالتلوث، ولكن أسباب عدة تراكمت خلال العقود الماضية قلصت من المساحة الخضراء وزادت من ضيق تنفس الدمشقيين وازدياد أمراضهم الصدرية. قلة المطر وانحباسه جعلت فلاحي الغوطة يهجرون أراضيهم إلى طلب وظائف أخرى، ثم بدؤوا يبيعون أشجار (الحور) التي كانت تشكل سياجاً رائعاً لبساتينهم، وبتّ تشاهد السيارات التي تنقل الخشب المنشور الذي كان شجراً إلى دمشق، وأصبحت المزروعات الصغيرة والتربة مكشوفة للهواء الجاف.
وما زاد من التلوث وجود مئات المعامل لصناعة الرخام على طول النهر العتيق، مما أدى نتيجة لعدم التقيد بالطرق الصحيحة لتصريف (الطمي) الرخامي إلى تكتل الطي الرخامي الجاف على طول النهر، وبالتالي قيام الفلاحين نتيجة شح المياه بالسقاية من مخلفات الطي الرخامي والدبّاغات، وهذا ما أدى إلى وجود مساحات هائلة من الأرض البيضاء الكلسية في الغوطة المسكنية. إذن حزام دمشق الأخضر بات في حالة يرثى له، وصار الهواء النظيف حلماً دمشقياً بعيداً.. من شدة هوله صارت الطرقات والمنصفات حدائق للمواطنين، عدا عن قلة الحدائق في المدينة مما ساهم في اشتعال الحرارة في مدينة صار الإسمنت والإسفلت هما جسدها وروحها الصامتة.
 دمشق القديمة المهملة داخل سور دمشق القديمة وخارجه ثمة أساطير لبيوتات متلاصقة كقلوب صغيرة، دمشق الحنونة بلونها الخشبي وبشرها الطيبين. خارج السور (الصالحية، الميدان، ساروجة).. أسواق دمشق الرئيسية، وجه لثقافة المدينة وعصريتها.. داخل السور (الحمّامات، الجامع الأموي، قصر العظم.. والنوفرة وحكايا الحكواتي الوحيد (أبو شادي) ، مازلت محط أنظار السائح ومعالم راسخة لدمشق.. كل هذا الماضي يستبيحه الإهمال والصرف الصحي المحتقن، ونداءات أصدقاء دمشق بضرورة إعطاء هذا الماضي الرائع حيزاً من الاهتمام، لا أن تأخذ أسنان البلدوزرات الوجه الحنون للمدينة العتيقة.. ثم السماح لمن هبّ ودب، ومن امتلك صهوة المال أن يستثمر بيوتاتها كمطاعم وملاه. الحمراوي والمناخلية، شارع الملك فيصل، ومايدار في السر والعلن.. عن قرب دخول البلدوزر إليها..
والتحذيرات من المساس بقلب دمشق التي نلوذ بحواريها الرطبة عندما يشتد الحر. وتذهل أرواحنا. لأمانة احتفالية دمشق، إياكم ودمشق القديمة.. لا احتفالية للإسمنت.. مازال في تراب جدران المدينة القديمة عشبٌ قادرٌ على الصمود والنمو.. قليلاً من الرحمة بذاكرتنا. الساقية (بردى) رمز عفوية دمشق، الذي يشقها في فروعه السبعة، مليئاً و متشحاً بالرجولة، والسرير الذي يصطاف على جانبيه الدمشقيون.. صار ساقية خائرة وملوثة ببراز عفن. لم يعد بردى قادراً على منح الحياة.. بعد أن فقد حياته، من منبعه في الوادي الشاهق إلى مصبه القديم (بحيرة العتيبة) المجرى الفارغ.. سوى ساقية للذكرى في دمشق لتدل عن وجود نهر وليس شارعاً من البلاط، أما المحافظة فأعدت في ملل وغبار رسم نعش النهر برخام جديد لأمع تسعى للتعويض عن الماء.. ولكن هيهات؟ حتى تنظيف النهر بات مسؤولية السفارة اليابانية، وبعض محبي دمشق ونهرها، أما في الغوطة فيقطعه نهر الصرف الصحي الأسود.. بديلاً متسخاً عن الجمال.
هل بردى القصيدة.. جزء من تفكير أمانة الاحتفالية.. أم مجرد هوة مزخرفة في قلب دمشق. ربوة دمشق.. طريق دمر الجميل.. وكومة المخالفات التي تلتصق بالجبل، والوادي الذي صارت أشجاره صفراء، مقهى (أبو شفيق)، وسهرات (الشادروان، القصر) ومطربي السبعينات، جزء من ذاكرة دمشق الأصلية الذاهلة. سحابة الموت من قاسيون الجبل النائم على يد دمشق الهانئة، لن ترى بوضوح تفاصيل الشام، كذلك القادم من الريف إلى دمشق من أية جهة سحابة سوداء تستقبلك عن بعد.. فكلما وضحت السحابة السوداء كلما تأكدت أنك تقترب من دمشق التي يدخلها يومياً (250 ـ 300) سيارة جديدة. المحاولات البائسة للمحافظة لتخفيض الضغط عن دمشق لم تفلح.. نقل كراج البرامكة إلى السومرية لم يساعد على تخفيف السحابة وتخليصها من سوادها، إنشاء الأنفاق والالتفاف على المشكلة.. آخرها صراحة محافظة دمشق أن العاصمة ستتحول عام /2010/ إلى مرآب للسيارات. في أوروبا الدول التي استشعرت خطر التلوث، بات الناس قبل الحكومات يفكرون بالحلول.. خارج المدينة تصطف السيارات، ثم التسوق وقضاء الحاجات على الدراجات الهوائية (في الصين، فرنسا)، أما في دمشق فعلى العكس انتشرت مكاتب بيع السيارات، والشركات المستوردة كالسرطان، سنوات الحرمان والحلم بأن تقود سيارة ولت، ولكنها الآن تترك مدينة صريعة بالهواء المسموم والشوارع المختنقة، بات السير على الأقدام أهون من ركوب حافلة، وأقرب، والوصول إلى منزلك أوعملك عقوبة، تقضي معظم وقتك إما بانتظار السيارة أو في الطريق المزدحم. القادم إلى دمشق صباحاً من غربها، يستطيع ببساطة أن يعدّ الدقائق الخمسة عشر التي سيقضيها من السومرية إلى أول أوتوستراد المزة، والخروج ليس بأقل قسوة من الدخول.. الأرصفة الملونة في كل دمشق ورشات تقلع الرصيف القديم، وتستبدله برصيف ملون، لا يلبث لأيام قليلة على حاله، حتى يعود كما سابقه، أسوداً مغبرً مسودّاً. تبدو عملية تبديل الأرصفة كمن يخدع نفسه، بديل مؤقت، أما المشكلة الأساسية فهي النزيف الدخاني الذي يحول كل شيء إلى لون قاتم، أما في داخل المدينة فتعيد المحافظة الساحات والشوارع إلى حجرها القديم، الأسود النافر، أي محيط بردى والمتحف الوطني وجامعة دمشق باعتبارها وسط المدينة. ومنذ أسبوعين تعمل المدينة لتجديد أرصفة (السرافيس) تحت جسر السيد الرئيس، ونقلتها إلى داخل مدينة المعرض القديم، مما زاد من الازدحام والفوضى.
في البرامكة تشعر بأنك في ملعب كرة قدم ترابي.. ومازالت الورشات تعمل وسط الغبار على تغيير الأرصفة.. والبسطات تحتال في تواجدها، على الترابي تارة وفي وسط الطريق تارة أخرى.. حيث تباع منتجات يجب أن تراقب ويسأل عن مصدرها (الساعات، العطورات)، ترى سؤال برسم أمانة الاحتفالية والمحافظة.. الأرصفة الملونة من أي صنوف الثقافة يمكن اعتبارها؟؟ استثمارات للريح مما لا شك فيه أن يقيناً أصاب المواطن أن وراء كل قرار جديد تتخذه محافظة دمشق استثمار جديد.. حتى البرامكة تم الإعلان عن استثمار خدمي سياحي فيه، وكذلك الحديقة التي حلت محل القرماني صارت حديقة للنوم والتسكع.. واقتطع منها جزء للأتربة، والذي كان كما بررت المحافظة مجرد خرائب ترتع يها الجرذان. ويظن المواطنون أن نقل الكراج المقابل لـ(سانا) قريباً إلى نهر عيشة.. وراءه، ما وراءه من استثمارات مختبئة وراء خدمة المدينة. أما الأحاديث الماضية عن المجمع الحكومي في المعضمية، ومشروع المترو) الذي لم تنته دراسته بعد (مع الأوروبيين تارة، والإيرانيين تارة أخرى)، فهي السنوات الأخيرة القادمة.. كذلك صفقات السيارات الإيرانية التي تعمل على الغاز وتخفف من التلوث فهي برسم وزارة النقل.. لنا.. دمشق تستحق دمشق أكثر من ذلك منا، ليست بحاجة لأن تتوج كعاصمة للثقافة العربية، فعلى مدار تاريخها لم تتخلى عن دورها كمنبر تاريخي ثقافي.. وكقائدة للأمة في عهود ازدهارها وانحطاطها.. لا تحتاج إلى تتويج من أحد.. دمشق تحتاجنا نحن أبناؤها فقط.. محبي نهرها وغوطتها، وقاسيونها.