التعيين المراتبي مولد التسلط والفساد البيروقراطي
مبدآن أساسيان عند تشكيل الدولة الطبقية الاستغلالية، التعيين المراتبي ونزع سلاح الكادحين، بهدف تشكيل جهاز بيروقراطي يقف حاجزاً بين الشغيلة والطبقات الاستغلالية.
أول إجراء ثوري نفذته كومونة باريس عند تشكيل أجهزة دولتها هو إلغاء التعيين المراتبي، وفرض الانتخاب لكل المناصب الحكومية، بهذا انتفى كل أساس لتشكل البيروقراطية في أجهزة الدولة الاشتراكية، فالكادحون ليسوا بحاجة لجهاز بيروقراطي، لعدم وجود طبقة أو فئة يريدون استغلالها وقمع تمرداتها.
نظراً للتأخر الاقتصادي والثقافي للدول النامية التي اختارت طريق التقدم الاجتماعي، لم يكن بالإمكان تطبيق علاقات الإنتاج الاشتراكية مباشرة، فنقلت من الدول الاشتراكية أسلوب رأسمالية الدولة لإدارة الملكية العامة، حيث تستثمر الدولة ملكيتها بأسلوب رأسمالي صرف، الفرق الوحيد مع النظام الرأسمالي هو أن القيمة الزائدة التي تنتزعها الدولة من الشغيلة، توجهها من أجل التصنيع.
وفي ظل رأسمالية الدولة، تعين الدولة إدارة المعامل والشركات، وتحاسبها على نتائج عملها. هنا يكمن جذر المشكلة وبداية انهيار الاشتراكية، الطبقة العاملة مالكة المعامل، ليس لها دور مباشر في محاسبة ومراقبة الإدارات، وبقي التعيين المراتبي سائداً في تشكيل أجهزة الدولة الاشتراكية، ولم يختلف عن أسلوب تشكيل أجهزة الدولة الرأسمالية، سوى بالأخلاق الاشتراكية، وهذا لا يكفي لمنع تشكل البيروقراطية، فالمسالة ليست مجرد أخلاق. إن التشبث برأسمالية الدولة بعدما استنفدت إمكانياتها، كان وراء فشل الاشتراكية.
النقابات والمنظمات الشعبية تتشكل قياداتها بالانتخاب من تحت إلى فوق، فقط الإدارات يصدر قرار تعيينها من الأعلى إلى الأسفل لماذا؟ لان الإدارة بيدها القرار المالي، وقوى الفساد لا تتخلى مطلقاً عن القرار المالي مهما كلف الثمن، فمن خلال الرشوة تشتري المجالس التشريعية وقيادات الأحزاب الاشتراكية بما فيها الشيوعية، هنا حل اللغز.
اختيار الإدارة بطريقة التعيين المراتبي، المرتبة العليا تعين المرتبة الدنيا سيولد البيروقراطية بفعل قانون الاصطفاء الطبيعي، فالكل له مصلحة في البقاء في منصبه أطول فترة ممكنة أو الترقي إلى منصب أرفع، بسبب الامتيازات والمنافع، الأمر الذي يكره الجميع على التزلف والخضوع المطلق للمرتبة العليا وتشكيل الشلل والولاءات والتكتلات، كي تحمي المناصب بعضها بعضاً، تطوير الإنتاج وزيادته وتحسين مستوى معيشة العمال لم يعد يهم الإدارات، براعة الإدارة ومهارتها تتجلى عند البحث عن أشكال جديدة لاختراق القانون والالتفاف عليه من أجل الاختلاس والرشوة والابتزاز.
التعيين المراتبي يعني انتشار المحسوبية والفساد وعدم الكفاءة…الخ، فالمدير الفاسد يعين مديراً فاسداً والمتسلط يعين متسلطاً... في نهاية الأمر يسيطر على المؤسسات الإنتاجية شبكات من الفاسدين الذين يشكلون أقلية في أي معمل، تستطيع الطبقة العاملة القضاء عليهم بمنتهى السهولة، لذلك هؤلاء بحاجة إلى حماية جهاز ما من استياء وتذمر العمال، في ظل نزع سلاح الشغيلة نشأ دور جديد إضافي لأجهزة الدولة الأمنية، فقد تم تضخيم أعدادها وزيادة ميزانيتها، وأصبحت مهمتها حماية الإدارات البيروقراطية من غضب العمال والجماهير الشعبية، الأمر الذي شوه دورها الأساسي، وفي النهاية انغمست في الفساد وتقاسمت الحصص مع الإدارات، وبسبب انشغال هذه الأجهزة بمصالحها الجديدة تسلل أعداء الاشتراكية إلى المواقع المفتاحية في الدول الاشتراكية وأسقطوها من الداخل.
التعيين المراتبي يولد الطائفية والعشائرية والعائلية... فالعشائري سيعين من عشيرته لكي يحمي نفسه من الغدر، لكن الضرورة التاريخية تشق طريقها في نهاية المطاف رغماً عن كل الاحتياطيات والموانع ورغماً عن كل الشطّار، فقد تجاوزت شعوب المنطقة في الخمسينيات -مرحلة نهوض حركات التحرر الوطني- التقسيمات العشائرية والطائفية والتعصب العرقي بحزم، وانقسمت على أساس وطني اجتماعي، والآن نتيجة سلوك قوى الفساد الكبرى المشين عادت لتطفو على السطح أشكال التجمعات البدائية المتخلفة، لان البيروقراطية لها مصلحة مباشرة بافتعال وخلق التناقضات والثنائيات الوهمية كي لا يتوحد المجتمع ضدها.
مع مرور الزمن تشكلت فئة البيروقراطية التي انفصلت مصالحها عن مصالح المجتمع لا بل تناقضت مصالحها جذرياً مع مصالح الجماهير الشعبية، إعادة الانسجام بين مصالح الإدارة ومصالح الكادحين يقتضي خضوع الإدارة لرقابة الكادحين، بالفعل ليس للطبقة العاملة أية مصلحة بانتخاب إدارة فاسدة، متسلطة، وعندما تغيب رقابة الطبقة السائدة على الإدارة تنفصل مصالح الإدارة عن مصالح الطبقات السائدة فينتشر الفساد واللامبالاة، ويتفسخ المجتمع وينحط سياسياً وينهار أخلاقياً.
وعليه فإن مشروع إصلاح القطاع العام إذا لم يتضمن إلغاء التعيين المراتبي وانتخاب الإدارات من الطبقة العاملة مباشرة وإمكانية المحاسبة الفورية للفاسدين، فإنه لن يعطي النتائج المرجوة.. من الضروري أن تكون حلولنا واضحة ودقيقة يستحيل رفضها من قوى الفساد، وإلا تعرضت للعزلة عن الجماهير، وبالتالي يسهل الإطاحة بها من مركز القرار الاقتصادي والسياسي.