مافيا البادية السورية
قبل سنوات، نظمت مدرسة ابتدائية، رحلة إلى جبل البلعاس في البادية السورية، على بعد 15 كم، من مدينة حماة، وكان هذا الجبل قبل سنوات طويلة، غابة كثيفة من أشجار البطم الأطلسي وبعض المرفقات الأخرى، كالسويد واللوز البري، ويضم في جنباته بعض الحيوانات البرية، كالغزلان والمها والريم والذئاب والضباع وابن آوى والثعالب، وبعض الطيور، كالعقاب والصقور والحجل.
ومع السنوات، لم يبق من الشجر إلا القليل، ولم يبق من الحيوانات إلا الضباع والثعالب.
■ الرحلة المشؤومة:
شاهدت مديرة المدرسة مع تلاميذها، رعاةً يقطعون الشجر ويقدمونها علفاً للأغنام، تصدت مديرة المدرسة للرعاة، تذكرهم بالقرارات التي صدرت لحماية منطقة البلعاس، وأن هذه المحميات كلفت الدولة مئات الملايين، فما كان من الرعاة إلا أن أشهروا أسلحتهم الحربية، وأطلقوا النار على التلاميذ، فأصابوا المديرة بطلق ناري، وتلميذة من المدرسة، والآلية بأضرار كبيرة، وسجلت: «ضد مجهول».
في جانب آخر يقوم بعض الكبار وأزلامهم، بحماية مساحات كبيرة في البادية، بحجة أنها أراض ملك، ويقوم آخرون بوضع تخوم وعلامات حدود، لمنع أغنام غيرهم من الرعي فيها، ويقوم آخرون باستباحة المحميات والمجمعات التي أقيمت لزراعة النباتات الطبية والعطرية والتزيينية، بقوة السلاح.
■ فوق القانون:
مافيا البادية السورية فوق القانون، وأراضي البادية في عرفهم، هي أملاكهم وليست أملاك الدولة، وهم يتحدَّون بشكل سافر، القانون رقم 62 لعام 2006، القاضي بأن تُعد أراضي البادية من أملاك الدولة الخاصة، وقد شكل هذا القانون نقلة نوعية في مجال الحفاظ على البادية السورية وتنظيم استثمارها، وكان الأمل أن يؤدي إلى إحداث التنمية المتوازنة، وإعادة الحياة البرية والغطاء النباتي والثروة الحيوانية، بحيث تصبح البادية محمية طبيعية.
وقبل هذا القانون، صدر القرار الوزاري رقم 19 لعام 2003، الذي اعتبر محمية البلعاس نموذجاً للمحميات العالمية، الموجودة في أوروبا وأمريكا وغيرها، من حيث التقسيمات والنشاطات. كما استُحدث مشروع تطوير وتنمية جبل البلعاس عام 1986، وأخضع لقانون الحراج 66 لعام 1956 ثم عدل بقانون الضابطة الحراجية رقم 7 لعام 1994، وكان الهدف إعادة تشجير البلعاس بغرس المخروطيات، الصنوبر والسرو بشكل أساسي.
وتم إنشاء مخفر حراجي وعدد من المحارس على محيط الجبل، وتقرر إنشاء مشتل لإنتاج غراس البطم، وتمت أعمال استصلاح نفذتها شركات القطاع العام، واستمرت عمليات التحريج الصناعي بشكل سنوي، حتى وصلت 2000 هكتاراً، عام 1990.
وفي عام 2003 صدر قرار وزاري برقم 19، بتسمية جبل البلعاس محمية بيئية متعددة الأغراض مساحتها الإجمالية 34365 هكتاراً.
■ الهدف والواقع:
كان من الأهداف المتوخاة:
1ـ المحافظة على جبل البلعاس بصفته:
ـ نظام غابات المناطق الجافة ضمن البادية السورية، «مجتمع للبطم الأطلسي».
ـ حماية للحياة البرية وتدعيمها.
ـ مصدراً كبيراً للتنوع الوراثي للأنواع الجفافية.
ـ حماية الغطاء النباتي من التدهور، وإعادته إلى الحالة الطبيعية.
ـ تفرده بموقعه الطبوغرافي والبيئي والسياحي.
2ـ إجراء الدراسات والأبحاث العلمية.
3ـ وقف الاستهلاك المدمر للثروات الطبيعية والبيئية.
4ـ حماية التربة من الانجراف الريحي والمائي.
5ـ الإشراف الفني الكامل على كافة أشكال استثمار موارد الجبل بما يتناسب مع حماية للغطاء النباتي والحيواني.
وقسمت المحمية إلى ثلاث مناطق، واتخذت إجراءات هامة، أبرزها:
ـ يمنع منعاً باتاً الرعي ودخول الحيوانات غير البرية.
ـ تمنع فلاحة الأراضي وزراعتها وحفر الآبار وإلقاء الأتربة وإقامة المباني من قبل السكان، أو تنفيذ أي نشاطات أخرى.
ـ يمنع إشادة الأبنية أو نصب الخيام أو بيوت الشعر.
ـ يمنع دخول الآليات أو الأشخاص إلا لأعمال الحماية، ويسمح للدارسين والباحثين فقط، الدخول لإجراء الدراسات والأبحاث، بعد موافقة الوزارة ومديرية الحراج.
■ حبر على ورق:
المليارات صرفت على هذه المحميات، وقرارات وقوانين صدرت، ولكن لم تبق فقط حبراً على ورق، بل جرى تجيير هذه المليارات لحفنة من ملاكي وتجار الأغنام، وحُماتهم وشركائهم من المتنفذين، ضاربين عرض الحائط بالتنمية وبالبيئة وبالمحميات، من أجل مصالحهم، وشاهدُ ذلك مذكرةُ جمعية العاديات في السلمية، حيث قامت لجنة البيئة في الجمعية بزيارة إلى بعض المواقع، ووثقت التعديات الواقعة، كما يلي:
ـ تدهور كامل في موقع بستان صبيح، حيث تم اقتلاع ورعي الغراس في كامل الموقع، البالغة مساحته التقريبية 13 كيلومتراً مربعاً، وعلمت اللجنة أن هذا الموقع تجري عملية إعادة تأهيله وزراعته بالتحريج الصناعي، منذ أكثر من عشر سنوات، أي أن الغراس بعمر 10 سنوات.
ـ تدهور واقع الغراس المحرجة اصطناعياً، وبعمر أكثر من 15 سنة، على جانبي الطريق العام. حيث أصبحت عارية تماماً من الأوراق والأغصان الحديثة، وتعرض جزء كبير منها للتكسير، كما لاحظت اللجنة أثناء مرورها، وجود أكثر من طريق مسدود بالحجارة الكبيرة، وعلمت بعملية قطع الطريق العام عقيربات ـ تدمر، منذ عدة أشهر. وهذه الحال للغراس والطرقات، تنطبق على مواقع أخرى.
■ حراسة دون حراس:
لاحظت اللجنة لدى مرورها في المواقع الشمالية، للتعرف على حدود المحمية، أن هناك محارس خالية من الحراس، وقد تعرضت للتخريب. ولدى سؤال بعض الحراس في مواقع أخرى عن السبب، أفادوا أنه تم إخلاؤها، لعدم وجود عدد كاف من الحرّاس، وتعرضت للتخريب ليلاً من بعض الرعاة المسلحين.
أما مُسيَّج الغزلان، فقد تعرض لقطع السلك الشائك في أكثر من مكان، حيث علمت اللجنة أن الرعاة قاموا بقطعه تمهيداً لدخول الأغنام إليه ليلاً فيما بعد، وقد حدث هذا منذ أكثر من سنة، ومازالت الأمور على حالها.
لاحظت لجنة البيئة أكثر من حالة تخريب طالت المنشآت العامة، منها: مُسيَّج الغزلان وشاخصات الطرق العامة، والمحارس ومبنى الإدارة الجديد، المشيد منذ عام 2005، ومازال مغلقاً.
■ أسباب التعديات:
لحظت اللجنة أن سبب التعديات يعود إلى ما يلي:
1 ـ وجود تجمع سكاني ضمن رسم التنباك، من بيوت شعر وأبنية مخالفة، رغم صدور قرار نزع يد وإزالة، لم ينفذ، ووجودها يشكل إحراجاً كبيراً بالنسبة للعاملين والقائمين على حماية المحمية من كافة أشكال التعديات، وهنالك احتجاج من الكثير من السكان المجاورين للمحمية على ذلك، إذ كيف يسمح لأهالي التنباك بدخول المحمية هم وأغنامهم، ويمنع آخرون من سكان القرى المحيطة؟.
2 ـ التداخل بين أراضي البادية والحراج، حيث لوحظ أن المحمية محاطة بأراضي البادية من كافة الاتجاهات، وهذه الأراضي غير مسموح بزراعتها، ومخصصة للرعي، بموجب القوانين الخاصة بالبادية. وهذا ما يدفع السكان المجاورين لمهاجمة المحمية والتعدي عليها.
3 ـ انعدام الوعي البيئي لدى السكان المجاورين، فهم لا يدركون أهمية هذه المحمية، وما لها من فوائد مستقبلية، وما يهمهم هو فقط إطعام أغنامهم.
4 ـ عدم وجود قضاء حراجي، والكثير من قضايا الحراج تبقى حبراً على ورق، وتسقط بالتقادم مع الزمن، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة المخالفات وتمادي المخالفين، حتى أننا سمعنا عن كثير من الحوادث الخطيرة، كالممانعات المسلحة، وخاصة ليلاً، وعن إطلاق نار على الدوريات الحراجية، وعن حوادث الضرب بالحجارة والتهديد بالسلاح، والممانعات المختلفة، من قبل الرعاة المخالفين، حتى وصلت حد التهديد بالقتل، وطالت المهندسين العاملين هناك بمن فيهم رئيس المحمية.
5 ـ عدم تطبيق قوانين المحمية المذكورة في قرار إحداثها.
6 ـ إن أغلب العاملين في المحمية في مجال الحماية من حراس وخفراء وسائقين هم من أهالي المنطقة الذين تربطهم علاقة قرابة وثيقة بالمخالفين والرعاة المحليين، وهذا يتعارض مع طبيعة عملهم.
■ آراء اللجنة:
ـ منح السكان المجاورين من مربي الأغنام مقنن علفي إضافي وكافٍ لإطعام أغنامهم، من أجل عدم التعدي على المحمية.
ـ تعزيز المحمية بمؤازرات حماية دائمة شرطية وأمنية ومع عناصر من سرية حفظ النظام بشكل دائم، تعمل تحت تصرف إدارة المحمية والمسؤولين عنها.
ـ إعادة ترميم هذه المواقع بخطط تحريج جديدة.
ـ إقامة دورات توعية للسكان المجاورين وإعطاؤهم الحوافز التشجيعية، وإقامة مشاركة حقيقية وفعالة، للمواطن الريفي في تنمية الغابة.
ـ الانتفاع من الأحطاب اليابسة ونواتج التقليم، والانتفاع من الأخشاب اللازمة لصنع الأدوات الزراعية.
ـ استثمار النباتات الحراجية الثانوية (الزعتر وعرق السوس والقبار والمريمية)، بحيث يقتنع السكان المحليون مع الزمن والتعليم المستمر، بأن إشراكهم في إدارة استثمار وحماية الغابات، سوف يحسن من مستوى حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
ـ إشراك أهالي المنطقة بالعمل في المحمية ضمن الورشات المختلفة، من تقليم وزراعة وحفر وتربية في المشاتل، والقيام بأعمال خدمات أخرى.
ـ إزالة المخالفات الموجودة، وإيجاد قضاء مختص، أسوة بالدول التي تتبنى فكرة المحميات في العالم، وتأهيل مبنى المحمية بالكهرباء والماء والهاتف والصرف الصحي.
ـ إقامة سدات تخزينية لتجميع المياه السطحية، على الأودية والمسيلات، لتنشيط الحياة النباتية والحيوانية، ولرفد المحمية بمصادر مياه، حيث لوحظ عدم وجود مثل هذه السدود بالرغم من كثرة المسيلات والأودية الصالحة لذلك.
ـ الاستفادة من الآبار السطحية القابلة للتأهيل، والتي يفوق عددها 200 بئراً.
وأخيراً نجاح المحمية يكون بتطبيق صارم للقوانين الناظمة.
■ قف هنا:
إذاً، لم يكتف أزلام المتنفذين، بضرب وإجهاض أهم مشروع تنموي في البادية، التي تحتضر منذ سنوات عديدة، بل قاموا بقطع الطرق الرئيسية بين القرى والبلدات، وتصل إلى البادية، كطريق عقيربات ـ تدمر، وتخريب غرف الحراسة والإدارة العامة، وإطلاق النار على الدوريات الحراجية، على قلتها، وتهديد المهندسين بالقتل. والمفارقة هنا أن الحراس والعاملين في المحمية هم من أزلام المتنفذين وأصحاب الأغنام، والمفارقة الأكبر هي قلة المقنن العلفي، والمخصصات لا تكفي، ما أرهق المربين، كون تأمين مستلزمات حيواناتهم من العلف يكلف الكثير، في حين يُستَجَََر العلف من المتنفذين الكبار، وبقوائم وهمية، ويخزن ويباع في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، أي أن الفساد ينتشر حتى في أعماق البادية، بالاستيلاء على المحميات بقوة السلاح، واستجرار الأعلاف بقوة النفوذ، وبيعها للمربين الصغار بأسعار مضاعفة، وقد خلق هذا الواقع توترات ومشاحنات ومشاكل اجتماعية كبيرة، تتطلب تدخلاً عاجلاً، لوضع حد لهذا التسيب العام.