الواقع أصدق أنباء من التصريحات الحكومية

من حقهم أن يصرحوا حول حالتنا ما يشاؤون، ومن حقنا – نحن الذين تطحننا الحياة- أن نقول لهم: هذا واقعنا.. بين تفاؤلهم المخادع المتكئ على الفراغ واقترابنا من يأسنا ثمة منبر لهم يقولون منه ما يحلو لهم من كلمات معسولة، ولنا ما نراه.. الشوارع، الأرصفة، الباعة، شكل البطالة على حقيقته (الجالسون بمعاولهم في زوايا باب الجابية)، الأطفال المتسولون، الزحام في كل مكان (الحافلة، الكازية، الفرن الاحتياطي).

ليس من فقراء في سورية، هناك انخفاض في معدلات الفقر، لدينا أصحاب دخل محدود، ليس هناك رفع للدعم، ثم.. لا تثبيت للعاملين المؤقتين، ليس من قانون للتقاعد المبكر... والأهم ليس هناك زيادات في الرواتب الشحيحة التي لم تعد تكفي لستر إحساس البائسين بالقائم المزري، والقادم المرعب..

30 % من السوريين فقراء.. أكثر من خمسة ملايين سوري فقراء، لا ضمان صحي، عمال القطاع الخاص في أغلبهم خارج التأمينات، رفع الدعم عن البنزين.. والبقية قادمة. 

الواقع هو الحكم فيما بيننا، مسؤولو الحكومة بتقاريرهم ومؤتمراتهم الصحفية، ونحن الذين نمشي في الشوارع ولنا عيون ترى ما لا يمكن لراكب السيارة الفارهة أن يراه، وقد لا تدخل عجلاتها حوارينا العشوائية المنتشرة كالوباء على أطراف العاصمة.. 

لا فقراء

السيدة الوزيرة ديالا الحاج عارف تتبوأ وزارة من أكثر الوزارات التصاقاً بهموم الناس، تسمى الشؤون الاجتماعية والعمل، أثارت في تصريح عاصف لها، الناس والصحافة والمنطق: (لا فقراء لدينا، لدينا أصحاب دخل محدود)

الغريب في كلام السيدة الوزيرة ليس نفي كل التقارير الحكومية والدولية ومعرفتها التامة بحقيقة ما يتقاضاه العامل السوري وما ينفقه، الغريب أننا لمحنا في كلام السيدة الوزيرة مسؤولاً يتحدث ربما عن بلد آخر.

فقد كشفت دراسات أعدت بالتعاون بين المكتب المركزي للإحصاء وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن عدد هائل للفقراء في سورية، مما أشاع جواً من الذعر في الأوساط الاقتصادية والشعبية والمهتمة، فقد أكدت الدراسة أن 30 % من عدد السكان في سورية فقراء، وهذا يعني أنه يوجد لدينا 5.3 ملايين فقير، من بينهم مليونا مواطن لا يستطيعون الحصول على الحاجات الأساسية من الغذاء وغيره، أي أنهم يعيشون تحت خط الفقر.

فهل اطلعت السيدة الوزيرة على هذه الدراسة أو سربها لها أحد؟؟ هل وصل إليها إذا اطلعت، قليل من الذعر الذي اعترانا.

في الواقع تبدو المسألة أكثر رعباً، البسطات التي تزرع شوارعنا، العاطلون عن العمل في باب الجابية، عند كورنيش الميدان، الجامعيون الذين ينتظرون مسابقات التعيين، عمال المياومة، نواطير البنايات في تجمع كفر سوسة الذي كان بستاناً، الحسينية التي تغوص في الوحل، دمشق عاصمة الثقافة وحفرياتها، السوار الفقير في عش الورور، والمزة 86 و......

هل تعرف السيدة الوزيرة كل هذا؟ هل مرت في الشوارع التي نمر بها؟ هل تعرف شكل البؤساء في السيدة زينب؟؟ 

الدعم

السيد وزير المالية الدكتور محمد الحسين في حوار السقف المفتوح الذي نشرته جريدة الثورة، تطرق إلى جملة من المشاكل الحساسة التي تتناول المواطن في همومه الدقيقة والحساسة، أولها الجدل الكبير حول رفع الدعم عن المشتقات النفطية والرعب الذي أثاره لدى المواطن، والدراسات الاقتصادية التي حذرت من تنفيذ الحكومة لهذا المخطط، والتزاحم على أبواب الكازيات كردة فعل غريزية على حاجة ستفقدها.

السيد الوزير أكد أن رفع أسعار المشتقات النفطية سيؤدي إلى (خلق) موارد، وهذه الموارد سيعاد توزيعها ضمن عدة اتجاهات، أهمها زيادة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة والمتقاعدين، ورفع أسعار المحاصيل الزراعية على اعتبار أن المزارعين والفلاحين يستفيدون من الدعم، إلى جانب ترتيب حلول مناسبة لتعويض أصحاب وسائل النقل ضمن عدة خيارات كتخفيض الرسوم المفروضة عليهم كفارق سعر المازوت.‏

المواطن لم يعد يثق كثيراً بكلام الحكومة، وهي التي بلا شك لم تعدّ تتدخل في تخفيض سعر البيض الفروج وجرزة البقدونس، ولم تضرب كما وعدت المحتكرين بيد من حديد.

أما بالنسبة للبنزين، الذي كان ضمن مخطط إعادة توزيع الدعم، فأين ذهب فرق السعر بعد رفع الدعم؟ أليس من المفترض أن يذهب إلى اتجاهات عدة مثل رفع الأجور، والضمان الصحي، لكنه حسب الوزير ذهب إلى (سادكوب)، فما الذي يضمن أن لا يذهب فرق رفع الدعم عن بقية المشتقات إلى القطاعات الأخرى الخاسرة في الدولة، أو إلى أماكن أخرى بعيدة؟؟

السيد الوزير أكد أن إصدار جملة هذه القرارات والإجراءات ستصدر في وقت واحد، بحيث يشعر ويتأكد المواطن بأن رفع أسعار المشتقات النفطية سيتم تعويضه ببدائل ومطارح أخرى.‏

الأمنية من حق الإنسان ليعيش، ورفع الدعم مؤكد لدى الفريق الاقتصادي، أما البدائل والمطارح فهي مجرد أمنيات. 

التقاعد المبكر

وزير المالية تحدث عن صيغة جديدة لقانون التقاعد المبكر، الصيغة القديمة رفضت من اتحاد العمال والحكومة لأن تكلفة التنفيذ عالية.

وبيّن وزير المالية أن القانون تمت مناقشته في مجلس الشعب في فترات سابقة ثم طلبت مؤسسة التأمينات الاجتماعية دراسة تكاليفه المالية فقدرت أنه خلال 5 سنوات قد تصل لحوالي 80 مليار ليرة، وهذا المبلغ يشكل عبئاً كبيراً لايمكن أن تؤمنه مؤسسة التأمينات الاجتماعية، ولا وزارة المالية، مع العلم أن التأمينات الاجتماعية من أغنى المؤسسات الحكومية، وكان يمكن لها أن تستثمر أموالها المجمدة في مشاريع تضمن لها الربح الأكيد الذي من خلاله تكون جاهزة للانتقال بيسر ودون مشاكل إلى مرحلة قانون التقاعد المبكر.

وذكر الحسين أنه رغم رفض اتحاد العمال لهذا المشروع سابقاً، فإنه يطالب به حالياً، ولديهم قناعة أنه قد يحل جزءاً من المشاكل، ولكن ربما يجب إعادة النظر بمكونات القانون وتكاليفه المالية التي لاأعرف مدى دقتها ويستبعد التسريح القسري، وهو غير موجود أًصلاً بالنص القديم .

وهنا نتساءل: لماذا تراجع اتحاد العمال عن رأيه، ولماذا لم يًستفتَ العمال في قانون مصيري كهذا؟

وهل سيكون لعمال القطاع الخاص نصيب يماثل عمال الحكومة؟ 

المعلَّقون في الهواء

المعلَّقون: هم حسب المصطلح الذي ابتدعوه، العاملون غير المثبتين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي (لا معلق ولا مطلق). وقد جاء كلام السيد الوزير عكس ما كان يتفاءل به هؤلاء، وهم ليسوا قلة، ويعملون على كف عفريت، فقد أكد الوزير بأن المرسوم رقم 8 لعام 2001 تم على أساس أنه آخر مرسوم، فيما الآن تتم المطالبة فيه، وقال: لدينا في سورية فلسفة خاصة، تعتقد أن المثبت في الدولة هو من يعمل فقط؟ على عكس كل دول العالم التي تقوم على العقود وفق أنظمة العمل، وأضاف متسائلاً: هل تم إنهاء عمل أي صاحب عقد؟ لا أعتقد ذلك! حيث نجدد العقود تلقائيا كل عام، أما فيما يتعلق بالمؤقتين والمياومين وغيرهم.. فهي حالات تعالج بطريقة أخرى.‏

كلام السيد الوزير صحيح بما يتعلق بدول العالم، لكننا هنا نتعامل كالآتي: إذا لم يفصل العامل، فالعقد سيف مسلط على عنقه، والسادة أصحاب العمل في القطاعين العام والخاص ينظرون إلى المتعاقد كمن اغتصب لهم مكاناً، أو كضيف ثقيل الظل.

مع الفضيحة

 (يؤسفني جدا عندما أرى قرار حجز احتياطي منشوراً في الإعلام، وهذا ليس مصدره الوزارة، وإنما جهات معنية أخرى تصل لها هذه القرارات. إذا ليس القصد هو التشهير بالناس، وخاصة هذه قرارات حجز، وأوضح أنه تم (أمس) إصدار تعليمات جديدة مع الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهات المعنية بأن أي قرار حجز يصدر (بحق أحد)، يمكن للمواطن (أو لهذا الـ«أحد») أن يتقدم بقرار قصر حجز وتقديم كفالة نقدية أو مصرفية فنحن جاهزون لذلك).

هذا الكلام المليء بالعواطف الجياشة للسيد وزير المالية، ونحن المتضررون من الفساد، وممن يحجز عليهم، وعلى أموالهم المنقولة وغير المنقولة، الحسابات السرية وغير السرية، نتمنى أن تزين الصفحات الرئيسة من الجرائد بأسمائهم الحقيقية وليس بالرموز، وأن نعرف أسماء أمهاتهم، فهذا يدلل على العدالة.

أموالنا المنقولة وسواها ليس لها مصارف سوى الدكاكين والصيدليات والمازوت والأطباء، لا حسابات سرية لدينا، ونحن فقراء، ولسنا أصحاب دخل محدود فقط. 

الأرقام تتكلم

السيد عبد الله الدردري النائب الاقتصادي، قدم مجموعة من الأرقام التي لا تستند إلا على افتراضات واهية وغير علمية، منها تراجع معدل الفقر المستند إلى استهلاك الفرد من 11.4 % في عام 2004 إلى 10.5 % في عام 2007، وانخفاض معدل التضخم من 10.6 % عام 2006 إلى 5 % العام الحالي.

واعتبر السيد الدردري أن التقاعد المبكر يحتاج إلى مجموعة من الخطوات، أبرزها انطلاق صندوق البطالة، وإقرار التأمين الصحي الاجتماعي، وإعادة النظر في سياسة سوق العمل ومكاتب التشغيل، ومن ثم إعادة النظر بقانون العمل، مشدداً على أن الإصلاح الاقتصادي يحتاج إلى برنامج واضح ومتكامل، وهذا ما تعمل عليه الحكومة، ولديها البرامج الزمنية، ولديها القدرة والثقة ببلوغ ما اقترحته الخطة الخمسية العاشرة.

وفي عودة للدراسة آنفة الذكر عن الفقر في سورية، تؤكد في أولوياتها ازدياد حالة اللاعدل واللامساواة في المجتمع السوري، فبين الأعوام 1997ـ 2004 استهلك 20 % من السكان الأكثر ثراءً 95 % من الإنفاق في سورية، مقابل استهلاك 20 % من السكان الأدنى 7 % فقط. أي أن غير الفقراء يستفيدون أكثر من الفقراء في الإنفاق.

أما بقية البرامج الأخرى، فنحن على يقين أن الحكومة لن تدخر جهداً لإنجازها... ولكن على طريقتها في الصياغة والصناعة والمستفيدين.

قانون العمل، الضمان الصحي، الفقر، سوق العمل، التدخل في الأزمات، رفع الدعم، الإصلاح الاقتصادي، مكافحة الفساد، تراجع معدل الفقر، البطالة... من المؤكد أنها ستكون تجربة قاسية للحكومة، وقاسية علينا. 

ثقة فقط

جديد التصريحات المتتالية يعطي بعض التفاؤل فقط في لحظة سماعه، لكن القليل من التفكير بالماضي الطويل بين الشعب والحكومات المتعاقبة يترك هوة ليست بالضيقة ما زالت موجودة.

بين المنبر الذي يمتلكه المسؤول متى شاء، وكيفما شاء، وبين الواقع الذي يعيشه المواطن جهد يجب أن تتبناه الحكومة بمصداقية وجلد، وأن لا تترك لصدى تصريحاتها أثراً عليها وحدها فقط، وتعتقد أنها أنجزت شيئاً بالفعل.

عودة الثقة بين الحكومة والشعب، تعني بعض الفرج لحالته البائسة، لا خوف من خطوات مفاجئة، لا قرارات في منتصف الليل، لا مشاريع من زبد، لا أرقام للتصدير، لا تصريحات غير واقعية.. إنها الثقة.

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:50