تهريب المازوت.. هل هو مشكلة لا حل لها؟
اعتادت الحكومات السورية، وخصوصاً تلك التي يعيها المواطنون (الأحياء)، على التعاطي مع جميع المشكلات والعقبات والأزمات التليدة والمستجدة التي اعترضت وتعترض مسيرة تطور البلاد من النواحي كافة، على أنها من النوع الذي لا حل له ولا علاج. وقد عوّدت هذه الحكومات المواطنين على ذلك، وأثبتت، وماتزال تثبت لهم كل يوم تجذُّر هذه الذهنية في منطلقاتها وسلوكها وقراراتها وتوجهاتها، ونتائج وتداعيات برامجها المتخبطة، ولا فرق هنا إن كانت السياسة العامة المتبناة «اقتصاداً موجَّهاً» أو «اقتصاد سوق اجتماعي» أو «اقتصاداً حراً»، فالنتيجة واحدة دائماً: ما من حلول ناجعة!! لا حلّ للفساد المتفاقم.. لا حل للرشوة الفاقعة..
للمحسوبيات والخوّات واقتصاد الظل، لا حل للنهب.. لا حل للتهريب.. لا حل للبطالة، للأمية المنتشية العائدة بحيوية، لأزمة الكهرباء، لتناقص مياه الشفة والري، لتعاظم التهرب الضريبي، لازدياد تهريب الأموال..
هناك مشكلات مستعصية في كل شيء.. في الاقتصاد، في التعليم، في الصحة، في السكن، في الصرف الصحي، في الزراعة والصناعة، في الأجور، في التعاطي مع الدستور، في القوانين العادية والاستثنائية، في الهجرة الداخلية والخارجية، في الحقوق والواجبات، في الصلاحيات، في العلاقة بين السلطات الأربع، في المسموح والممنوع والمكشوف والمستور.....
واليوم، عند ظهور مشكلة جديدة من نوع ما، أو تفاقم مشكلة قديمة، سرعان ما يدرك الناس أنهم أمام حالة استعصاء جديدة، وأن المشرّعين، والقضائيين، والتنفيذيين، وحتى الإعلاميين.. سيتعاملون معها انطلاقاً من قناعة راسخة مفادها أنه: لا حل.. لاسيما وأن المواقع الحساسة في الاقتصاد والمجتمع والإدارة تشهد تغييباً قسرياً للكثير من الكفاءات العلمية والإدارية الوطنية النزيهة، وهذا أخطر ما في القضية، وهو بالتأكيد أحد الأسباب الأساسية لوصول الأزمات عبر تراكمها، لمستويات مأزقية.
وبطبيعة الحال، فإن استغاثات المواطنين ستذهب أدراج الرياح، خصوصاً وأن معظم تنظيماتهم السياسية ومنظماتهم الشعبية، أصبحت على درجة من الضعف تمنعها من القيام بأية خطوة لرفع الضرر عنهم أو المساهمة في حل الأزمات..
تهريب المازوت.. يا للمشكلة المستعصية!!
يقف مسؤول ما على منبر ما، ويطلق تصريحاً مضحكاً لدرجة البكاء: «تهريب المازوت إلى الدول المجاورة يلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد الوطني، ويجب العمل على إيقافه، وإنزال أشد العقوبات بالمهربين..».
يقف مسؤول آخر على منبر آخر، ويصرخ بطريقة مهينة: «يجب على المواطنين الذين وجدوا في تهريب المازوت فرصة للربح، التنبه إلى أنهم يلحقون أشد الضرر بالمصلحة العامة..»..
مسؤول ثالث يطل برأسه من موقعه الغارق بالفساد، ويتوعد: «لن نتسامح مع كل من يثبت تورطه في تهريبب المازوت..»...
وهناك العشرات من التصريحات المشابهة.. ولكن الصهاريج الكبيرة والصغيرة ماتزال تقطع الحدود مع الدول المجاورة ذهاباً وإياباً بشكل غير منقطع، تمضي محملة بعشرات آلاف الليترات من المازوت يومياً وتعود فارغة.. لتعاود الكرّة من جديد!!
أيها المسؤولون الحريصون على المصلحة الوطنية.. تعالوا لنبسّط المشكلة ونطرحها كما هي دون مواربة أو تورية أو إيماءات لا طعم لها.. التهريب الذي تدّعون محاربته، يتم في نقاط محددة أنتم تعرفونها جيداً، ويقوم به أو يرعاه أشخاص محددون أنتم تعرفونهم جيداً، ويتسلم المهربات على الطرف الآخر من الحدود تجار وسماسرة وموزعون تحفظون أسماءهم وصفاتهم، وتذهب الأرباح إلى جيوب أنتم أخبر بها من غيركم، ومحطات الوقود المخالفة التي تغطي كل هذا الضخ الهائل أنتم من عينتم إدارتها، وأنتم من يحافظ عليها ويحميها من المساءلة والمحاسبة، وربما أنتم من يجبرها على القيام بما تقوم به.. فكفى ادّعاءً! وكفى وعيداً وتشدّقاً بالمصلحة الوطنية! وكفى صخباً حول المشكلة التي تريدون إقناعنا بأنها مستعصية، وأنكم تبذلون أقصى ما تستطيعون لمعالجتها..
مشاهدات يومية.. اعتيادية!
تشكل الأطراف الغربية والشمالية الغربية لمحافظة ريف دمشق معظم الحدود السورية مع لبنان الشقيق، وهي عبارة عن سلسلة جبلية وعرة (سلسلة جبال لبنان الشرقية)، تخترقها عشرات الأودية السحيقة، شكلت على الدوام معابر إجبارية للتواصل بين غرب الجبال وشرقها التي ظلت على الدوام تشكل وحدة بشرية، اجتماعية واقتصادية وثقافية واحدة، وهذه الأودية بدروبها وتفرعاتها معروفة ومجسدة على الخرائط، من «حلائم قارة» في أقصى الشمال الغربي، إلى «مزارع شبعا» في أقصى الجنوب الغربي، مروراً بـ«رأس المعرة» و«الجبة» و«عسال الورد» و«مزارع رنكوس» و«حلبون» و«سرغايا» و«الزبداني» و«رخلة» و«عرنة».. وقد انتشرت على مفارق هذه الدروب مخافر حرس الحدود (الهجانة) والجمارك وقوى الأمن المختلفة، والحقيقة أن (الطير الطاير) كما يقول المثل، لا يستطيع عبور هذه السلسلة دون أن يمر بهذه المخافر والدوريات، لكن.. والحال كذلك، يكفي لمن يريد التمتع بمشهد السيارات المحملة بخزانات المازوت والصهاريج الكبيرة وهي تجوب الحدود جيئة وذهاباً دون أن يعترضها أحد، أن يجلس على إحدى القمم ويتابع المهزلة بالعين المجردة، وفي وضح النهار..
وهذا لا ينطبق على محافظة ريف دمشق دون سواها، بل يطال بقية الحدود اللبنانية - السورية في أطراف محافظتي حمص وطرطوس، وهناك الظفر بمتابعة المشهد أقل عناءً وأكثر استفزازاً للقلب والعين والمشاعر الوطنية، إذ لا يحتاج المرء لتسلق القمم ليكحّل ناظريه بالفرجة الخاصة، فالأرض منبسطة والأفق مفتوح، وعمليات التهريب تجري بصورة اعتيادية، وحتى الأطفال يساهمون بها دون أن يتلفتوا خوفاً أو حذراً..
ولا تختلف الصورة على الحدود السورية – التركية كثيراً عن مثيلتها الحدود السورية – اللبنانية، ولكن ربما تختلف الأساليب، فالأتراك على الطرف الآخر من الحدود أكثر انضباطاً ويقظة وجدية في مكافحة التهريب، لذلك قد يعاني المهربون ليس في إخراج بضائعهم من سورية، بل في إدخالها إلى تركيا.. ومع ذلك لا تتوقف الكثير من محطات الوقود في عين العرب والمالكية والقامشلي عن ضخ كميات متفاوتة في صهاريج المهربين.. والتهريب مستمر، وإن بتواترات تتعلق بمستوى نجاح مهربينا في مغافلة العيون التركية.
رئيف بدور: يجب تشكيل مقاومة شعبية لوقف تهريب المازوت!
الرفيق رئيف بدور عضو مجلس محافظة طرطوس أكد لصحيفة قاسيون أن عمليات تهريب البضائع إلى لبنان عبر التاريخ المعاصر كانت قائمة ومتواصلة، ولكن في السنوات الأخيرة بدأ التهريب يأخذ شكلاً جديداً أكثر تنظيماً ونفوراً وتصعيداً، حيث باتت قوى خفية منظمة تقف وراءه. وبينما كان التهريب سابقاً يتم من لبنان إلى سورية عندما كانت سورية تمر في حالات طويلة من الحصار الإمبريالي الأمريكي والأوربي، ويشمل المواد الزراعية والغذائية، وبعض الأدوات الكهربائية (فرامات لحم، خلاطات، تلفزيونات، مسجلات، فيديوهات..) أصبح هذا التهريب اليوم من سورية إلى لبنان، ويطال سلعاً لها تأثير مباشر على الاقتصاد السوري ومستوى معيشة المواطنين السوريين.
يضيف بدور: إذاً الآن، الموضوع أخذ منحى آخر يهدد وطننا سورية، فمنذ أكثر من عام بدأ تهريب المازوت بشكل كبير، وهذا ما أدى إلى إحداث أزمة خانقة في جميع المحافظات السورية وخصوصاً في محافظة طرطوس التي يحتاج المزارعون فيها إلى كميات أكبر من المازوت بسبب نوعية وأساليب النشاط الزراعي. وبسبب حساسية هذا الموضوع تمت مناقشته في مجلس محافظة طرطوس أكثر من مرة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، وكان للمحافظ دور جيد في إعطاء المسألة ما تحتاجه من أهمية، واستقبل الشكاوى المتعلقة بالأمر، وتعامل مع المشكلة بجدية كبيرة.
ومؤخراً طلبنا رئيس فرع الأمن الجنائي لمجلس المحافظة، وجرى نقاش هذه المسألة معه، واستغرب الأعضاء أن تفشل الدولة حتى الآن في إيقاف التهريب.. وأنا أكدت أن أصحاب العلاقة الذين يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن المواطن، من غير المعقول أنهم لا يعرفون المهربين بصفاتهم وأسمائهم، فالعملية صارت مكشوفة، وهناك كازيات تمول العملية برمتها، وهناك صهاريج بدلاً من قيامها بتزويد المحطات بحصصها من الوقود، تذهب إلى الغابة وتفرغ المازوت في خزانات المهربين.. قرى طرطوس الحدودية مكشوفة لعيون كل الناس، والصهريج يفرغ حمولته في وضح النهار و«على عينك يا تاجر»..
الغريب أن رجال العصابات الذين يرتكبون هذه المخالفات العلنية لا يخشون أحداً، حتى أنهم راحوا يغوون الأولاد الذين صاروا يتسربون من مدارسهم ليشتركوا في عمليات تهريب المازوت بكل ما يشكله ذلك من خطر على حياتهم ومستقبلهم، ناهيك عن الأضرار الكبيرة على المستوى الاقتصادي، وما يخلق ذلك من أزمات فادحة على مستوى محافظة طرطوس، خصوصاً في موسم الصقيع.
أقول باختصار: هذا التهريب يتم بمعرفة ورعاية بعض الأجهزة ومؤسساتها، وهناك مصالح معينة يستفيد منها مجموعة معينة، ويبقى الوطن هو الخاسر الأكبر.. وللأسف حالة التهريب بدأت تكون في محافظتنا شكلاً من أشكال المافيا المنظمة.. هذه المافيا خطرة على الوطن، الناس كانوا في البداية يهربون بالبيدون، أما الآن فبالصهاريج، والبارحة اشتبكت الشبيحة مع الدورية بالأسلحة، وقع قتلى، والمشاكل تتفاقم.
الحل بأيدي الدولة.. على الدولة أن تتصارح مع الناس وأن تكون شفافة معهم، المشكلة أنه لم يتكرم مسؤول بالمجيء إلى المحافظة لمناقشته حول هذه المشكلة العويصة.. أنا طرحت الموضوع مع رئيس فرع الأمن الجنائي وقلت له: إذا أعلنت الدولة عدم قدرتها على التصدي للمهربين، في هذه الحالة ما علينا سوى تشكيل مقاومة شعبية لوقف هذه الجريمة النكراء بحق الوطن..
للأسف لا توجد لدينا تنظيمات تتصدى لهذه الحالة، تنشر على صفحات جرائدها ما يحدث، فالتنظيمات الموجودة بمعظمها ضعيفة ولا تأثير لها، حتى الآن لا يعرف الناس ماذا تعني الجبهة الوطنية التقدمية.. مادورها في محاولة حل مثل هذه القضايا؟!! على الصحافة أن تتحرك لتسلط الأضواء على هذه الظاهرة الخطيرة، فهذا الموضوع هو موضوع وطني بامتياز، ويجب التعاطي معه اليوم بجدية أكثر من أي وقت مضى..
الوسطاء والأجانب مازالوا يستنزفون المازوت
لقد سبق ونوهت «قاسيون» في أعداد سابقة إلى موضوع استهلاك الشركات الاستثمارية الأجنبية العاملة في سورية لمادة المازوت، وركزت بشكل خاص على إظهار أرقام استهلاك الشركات المنتجة للنفط لهذه المادة، وبناء عليه، وتحديداً بعد رفع الدعم، قامت الحكومة مرغمة بفرض السعر العالمي لمادة المازوت على هذه الشركات، وباعتقادنا، فإن هذا أضاف دخلاً عالياً جداً إلى خزينة الدولة، ولكن اتضح لنا لاحقاً بأن هذا الإجراء قد فرض على الشركات الكبرى (أي المقاول الرئيسي فقط)، ونحن نعلم أن ما يستجره هذا المقاول الرئيسي بشكل مباشر لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من حجم الاستجرار الكلي، بينما الاستهلاك الحقيقي والكبير لهذه الشركات يتم من خلال المقاولين الثانويين، حيث أن استجرارهم للمازوت يشكل أضعافاً مضاعفةً لما يستجره المقاول الرئيسي بشكل مباشر، وهؤلاء المقاولون الثانويون مازالوا يحاسبون على أسعار المازوت بالسعر المدعوم حتى الآن.. ولا ندري إن كانت الحكومة، ووزارة النفط على وجه التحديد، متنبهة لهذه الناحية أم لا.. ولكن المسألة بكل الأحوال فيها الكثير من إشارات الاستفهام؟؟
الاستحقاقات الكبيرة.. قادمة
الحكومة رفعت الدعم عن المازوت.. ورفعت أسعاره، متسببة بخسائر كبيرة للفلاحين والصناعيين والمهنيين، وأرهقت كاهل الفقراء بارتفاعات شاملة للأسعار لم يسبق لها مثيل، كل ذلك بحجة إيقاف تهريب هذه المادة إلى الخارج أو الحد منه، لكن التهريب استمر مع ارتفاع أسعار المازوت في الدول المجاورة، والتهريب ازداد أكثر وجدواه ظلت كبيرة.. والسؤال: ما الذي ستفعله الحكومة الآن عبر فريقها الاقتصادي؟ هل سترفع أسعار المازوت مرة أخرى؟ هل ستلغي الدعم نهائياً؟ هل ستحرم المواطنين، الذين باع معظمهم قسائم المازوت تحت ضغط الحاجة، من هذه المادة كلياً وتستبدلها بالحطب، وتفتح المجال لتهريب كل هذه الثروة إلى الخارج دون أن يعود ذلك بأية عائدات للخزينة؟ هذه أسئلة لا أجوبة لها حتى الآن، وأغلب الظن أنها ستبقى بلا أجوبة، بينما الخطابات ستستمر، وكذلك التهريب.. والفقر أيضاً.. الشتاء على الأبواب.. والأزمة قادمة.. فلتقرع أجراس الخطر!!