يوسف البني يوسف البني

مصادر المياه في سورية وعدم الاستغلال الأمثل أسباب انخفاض حصة الفرد بين نقص الموارد وسوء التخطيط والإهمال

الماء هو عماد الحياة والحضارة، ولذلك فإن الاستفادة من جميع أشكال المصادر المائية المتاحة أو المحتملة كان منذ القديم، من أهم التحديات التي واجهها الإنسان، إذ حددت أماكن تواجده واستقراره، وتحكمت بشكل ومضمون نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ووجَّهت تطور حياته، وقد قام البشر باستغلال هذه الثروة/الحاجة بطرق مختلفة ارتبطت تاريخياً بمدى تطور معارفهم، بدءاً من حفر الآبار وشق القنوات، مروراً ببناء السدود على المسيلات والأنهار، وليس انتهاء بالتغلغل عميقاً نحو البحيرات الجوفية وضخها على شكل أنهار اصطناعية، كل ذلك لأن المياه عنصر أساس في التنمية، والمورد الطبيعي المساعد على تطور الحياة بكل أشكالها، والعامل الحاسم في الحفاظ على الغطاء النباتي والرطوبة التي تستجر الغيوم الماطرة، وبالتالي فهي أحد عناصر المحافظة على جودة المناخ والبيئة والتنوع الحيوي.

تعتمد سورية على مياه الأمطار كأحد المصادر الأساسية، حيث تغذي الأنهار والينابيع العذبة، وتقوم عليها الكثير من الزراعات، إلا أن تذبذب معدلات هطول الأمطار بين عام وآخر، وخصوصاً في العقدين الماضيين، بات يقلل من الاعتماد على هذا المصدر. كما تؤدي درجات الحرارة المرتفعة معظم فترات السنة في كثير من المناطق في سورية، إلى فقدان كميات كبيرة من مياه الأمطار بفعل التبخر، وتستخدم الكميات الباقية من المياه في الزراعة غير المنظمة، وعادة تستخدم بإسراف شديد. من هنا نرى أن جزءاً لا يستهان به من مشكلة المياه ناتج عن سوء الإدارة وطرق الاستخدام المتخلفة، وليس فقط بسبب الندرة في الأمطار، حيث أن الموارد المائية غير مستثمرة بكاملها في معظم المناطق، وبالمحصلة لا يتم استثمار سوى 68% منها فقط، حسب إحصائيات وتقارير وزارة الزراعة والأرصاد الجوية.
 
حماية المياه من الهدر في التشريع

ظهر الاهتمام بالثروة المائية وأهميتها وضرورة المحافظة عليها منذ القدم، حيث صدرت التشريعات المائية الأولى في سورية عام 1925، ثم تلتها تشريعات في عام 1958، وقد نص قانون العقوبات في إحدى مواده على اعتبار مشاريع المياه من الأملاك العامة وأن التعدي عليها هو اعتداء على الأملاك العامة، كما صدرت التشريعات المائية الحديثة بالقانون رقم 31 تاريخ 30/11/2005، الذي صدرت تعليماته التنفيذية في أواخر العام 2006، وتنص هذه التشريعات على منع التعدي على مشاريع المياه وعدم تلويثها، وتهتم بمتابعة المسألة الرقابية ضابطة مائية لها صفة الضابطة العدلية.
وعلى الرغم من أن الحكومات المتتالية انتبهت ظاهرياً إلى خطورة مشكلة هدر المياه وآثارها السيئة، وصارت تتطلع إلى مشاريع تخفيض فواقد شبكات التوزيع ومكافحة هدر المياه، إلا أن هناك مصادر مياه إستراتيجية وهامة ويمكن الاستفادة منها بتخزينها وإنشاء مشاريع خزانات لاستثمارها مستقبلاً لتأمين مياه شرب نظيفة وآمنة، مع أنها موسمية ومؤقتة، إلا أن هذه المياه تذهب هدراً وتمر من أمام المواطنين الذين ينتظرون ري ظمئهم، وهم يتفرجون عليها حيث تنتهي إلى مياه البحر دون الاستفادة منها، وهناك نماذج كثيرة من الأودية المؤقتة التي تتدفق مع هطولات المطر الغزيرة، ولكنها تذهب هدراً دون اعتراض طريقها وتخزينها لوقت الحاجة، وتنتهي في البحر بلا فائدة، كما أن هناك ينابيع غزيرة جداً تعاني الأمر نفسه، ونضرب مثالاً على ذلك نبع قرية «بيت عانا» في ريف جبلة، وهو نبع غزير جداً، يتدفق من ارتفاع يتجاوز الثمانمائة متر عن سطح البحر، وتسيل مياهه الصافية على شكل شلال من أمام بيوت القرية التي لا ماء فيها، ولكن دون أن يستفيد السكان من ذلك بشيء!!
وما يجري في «بيت عانا» وجوارها ينطبق على الكثير من القرى والبلدات في منطقة الجبال الساحلية، فرغم أن معدل الأمطار السنوي يزيد في معظمها عن 1000ملم، إلا أنه لا بنية تحتية متوفرة تسمح للسكان، وغالبيتهم من الفلاحين والمزارعين، أن يستفيدوا من المياه سواء في الزراعة والخدمات أو في الحصول على مياه الشرب.
 
الثروة المائية واقع مهمل

في مقابل الهدر الهائل للثروة المائية في المنطقة الساحلية، تظهر مشكلة شح هذه الموارد في المناطق الداخلية، وخصوصاً في المناطق المتاخمة للبادية أو الواقعة في ظل الجبال الشاهقة، حيث تعاني التجمعات البشرية والأراضي الزراعية هنا من جفاف وتصحر وتدهور في الغطاء النباتي واختفاء العديد من الأنواع الحيوانية بسبب قلة الأمطار من جهة، وسوء استعمال الأراضي والموارد المائية بالشكل الأمثل والمستدام من جهة أخرى، وفاقم المشكلة أكثر التوسع العمراني الجائر على حساب الأراضي الزراعية وتلوث التربة والتملح، حيث أدى هذا إلى خروج مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والاستثمار، وبالتالي تراجع الإنتاج الزراعي، وهذا أدى بدوره إلى نزوح عدد كبير من سكان القرى والبلدات العطشى إلى المدن حيث خلقوا في ترحالهم هذا مشكلات جديدة على المستويات كافة. فالتقارير الحكومة تشير إلى أن ظاهرة التصحر قد أكلت في السنوات القليلة الماضية مساحات كبيرة من الأراضي السورية تقدر بحوالي /109/ آلاف كم2، أي ما يعادل /59%/ من مساحة سورية، وبلغت قيمة الإنتاج الضائع من خروج حوالي /2.7/ مليون هكتار من استثمارها بمحاصيل بعلية مثل الشعير حوالي /5.7/ مليار ل.س سنوياً، الأمر الذي بات يهدد بشكل خطير الاستقرار الاجتماعي، بسبب ضيق دائرة الموارد وضعف القدرة على الاستفادة منها واستغلالها بالشكل الأمثل، وهذا كله بسبب تخلُّف السياسات الحكومية، وخصوصاً في السنوات الخمس الماضية، ومساهمتها في انخفاض الإنتاجية الزراعية نتيجة قراراتها وتوجهاتها النيوليبرالية، وسوء التخطيط الزراعي تاريخياً، بالإضافة إلى جملة من الإجراءات الضارة بالبيئة بما فيها العمليات الناجمة عن الأنشطة البشرية.
إن الواقع البيئي الجديد الذي بدأ يطبع البلاد بطابعه، يتطلب قرع أجراس الخطر، والمبادرة الفورية إلى وضع خطط استراتيجية وتكتيكية لمواجهته والحد من آثاره، وإلا فإننا ماضون إلى أزمة كبرى.
 
مخصصات مفقودة

يشير الواقع إلى أن معدلات المياه الجارية غير المحسوبة ضمن الثروة المائية، كبيرة في أغلب المحافظات، في ظروف تنذر بأزمة حقيقية، نظراً لتزايد الحاجة إلى كل قطرة من الماء، لأن هدر المياه والتقصير في استثمار الثروة المائية في سورية يهدد بمشكلة حقيقية تنعكس على جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فنحن بحاجة لتأهيل إدارات مؤسسات المياه والقائمين على أمور مشاريع الخزن والتوزيع، للوصول إلى مؤسسات مياه ذات كفاءة عالية تعمل بطرق فعالة ورشيدة ومستدامة. حيث يبلغ إجمالي ما تنتجه المصادر المائية من مياه الشرب في سورية مليار م3 تقريباً، يتم الحصول عليها من أربعة مصادر رئيسية هي: (الآبار الجوفية، الينابيع، الأنهار، السدود)، ويتم استثمار هذه الكمية من مياه الشرب عبر مشاريع تصفية وجر، وأنظمة توزيع منتشرة في مختلف المناطق والمحافظات السورية. ولو تم استثمار هذه الموارد بصورة مثالية وبشكل رشيد فإن حصة كل مواطن منها تبلغ 160 لتراً في اليوم، ولكن في الواقع فإن المواطن في بعض المناطق لا يحصل على عشر هذه الكمية، بسبب مجموعة من العوائق والمشكلات التي تعترض عمل هذه المشاريع، أهمها الهدر والإهمال وعدم الاستغلال الأمثل للموارد.

 مشكلات أخرى تعاني منها شبكات مياه الشرب

إن مشكلة تناقص الموارد المائية عاماً بعد عام يفرض على الجميع، وخصوصاً الجهات ذات الصلة في الإدارة المحلية ووزارتي الزراعة والري، مضاعفة الجهود وإيجاد الآليات والوسائل الناجعة لاحتواء الأزمات ومعالجتها قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة، فإضافة إلى إهمال الموارد المؤقتة التي تتكون عند هطول الأمطار الغزيرة وعدم استغلالها وتخزينها لوقت الحاجة، فإن شبكات مياه الشرب تتعرض لمشاكل أخرى ليست أقل ضرراً من الإهمال، من هذه المشاكل:
ـ انخفاض الكفاءة الفنية والإدارية لمنظومات المياه.
ـ محدودية التخطيط الشامل على المستوى الوطني، وغياب المخططات التنفيذية.
ـ فقدان كميات كبيرة من المياه نتيجة سوء نظام توزيع المياه (الشبكات وخزانات التزويد وأنابيب التوصيل وملحقاتها ووصلاتها وعطب الجوانات المرنة... إلخ)، واستمرار استعمال أساليب الري القديمة التقليدية، ما يؤدي إلى فواقد كبيرة تتراوح بين 30 ـ 60% من حجم المياه المنقولة والمستعملة.
ـ السحب الجائر وغير القانوني لمياه الشرب، واستخدامها لأغراض غير المخصصة لها كغسيل السيارات والشوارع وإملاء المسابح إن كانت مسابح عامة أو في الفيلات الخاصة.
ـ الأعطال الطارئة عند تنفيذ مشاريع الخدمات مثل الكهرباء والهاتف والصرف الصحي وتعبيد وصيانة الطرق، وخاصة عند حفر الطرقات للإصلاح أو لإيصال الخدمات الجديدة، مع غياب التخطيط الصحيح والتنسيق بين الجهات المنفذة للتمديدات تحت الطرق، ما يؤدي إلى كسر أنابيب مياه الشرب، وحدوث نقاط ضعف فيها، قد تؤدي إلى تسرب المياه وفقدان كميات كبيرة منها.
ـ السماح بالإفراط في استخراج المياه الجوفية بشكل جائر، والضخ الزائد لها، الذي يؤدي إلى استنزاف المخزون الجوفي الذي لا يتجدد بالسرعة التي يتم نفاذه فيها، بسبب عدم كفاية الأمطار لتعويض النقص الحاصل تحت ظروف الجفاف القاسية السائدة. فهناك مثلاً ما يزيد عن عشرين بئراً ارتوازية جديدة تم حفرها على جانبي وصلة لا يزيد طولها عن 3 كم على الطريق المتحلق الجنوبي، والممتدة من منطقة الكبّاس حتى منطقة الدبّاغات عند مفرق عين ترما، أي بمعدل لا يزيد عن مائتي متر بين البئر والأخرى، وصحيح أنها لم تدخل حيّز الاستثمار بعد، إلا أنها مؤشر خطير لإضافة نقص سيشكل أزمة أكبر في المستقبل المنظور.

 المياه ثروة يجب الحفاظ عليها

إن الاهتمام بالثروة المائية والمحافظة عليها وتنظيم استخدامها مسألة في غاية الأهمية، لذلك لابد من استغلال جميع الموارد المائية المتاحة وخصوصاً المؤقتة منها، واستثمارها بالشكل الأمثل من خلال إنشاء واستخدام السدود التجميعية، والاستفادة من مياه الينابيع لتأمين المياه إلى قرى هي بأمس الحاجة إلى كل قطرة ماء، كما يجب التوسع باستخدام شبكات الري الحديثة لتأمين المياه لجميع المواطنين، وتعتبر نظرية ترشيد استهلاك المياه من المواضيع الحيوية، ولا ينبغي تجاهلها عند البحث عن حلول لأزمة المياه، والتي هي مسؤولية جميع المواطنين، إضافة إلى ما يجب وضعه من خطط من الحكومة للحفاظ على الموارد الطبيعية، وممارسة الأساليب الحضارية في استهلاك وترشيد الاستفادة من المياه، مع الحلول العملية التي تقدمها الدراسات العلمية في هذا المجال، فاقتران التخطيط السليم والمشاريع التنموية من الحكومة مع الترشيد من المواطنين، يوصلنا إلى الاستخدام الأمثل لهذه الثروة والاستفادة الفعلية منها، بالحدود الدنيا للكميات المستعملة، وبأرخص التكاليف المالية الممكنة، لأن في ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن.