عمليات فساد في مطار حلب الدولي مثبتة بتقارير.. فساد بعشرات الملايين وتزوير واعتداءات بشعة
لاشك أن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة قد أصبح وصمة طاغية تصم جزءاً لا يستهان به من الإدارات، وأن الإخلاص والنزاهة والاستقامة في أداء الواجب الوظيفي قد أصبح سلوكاً نادراً وشاذاً ومتناقصاً عكس المأمول، بل وكثيراً ما يحارب من شبكات الفساد بأسوأ الأساليب. وتحقيقنا هذا هو مجرد مثال على ذلك، وهو لا يطال إلا جانباً واحداً من جوانب الفساد في أحد أهم المرافق السورية، وهو مطار حلب الدولي، ويُعبِّر فيما يُعبِّر عن مدى توغل شبكات الفساد ونفوذها الشديد في المستويات المختلفة من أجهزة الدولة ومؤسساتها.
بالمصادفة المحضة..
بينما كان أحد الموظفين المؤقتين يقوم بعمله الوظيفي في قسم (الفناكر) (الفنكر: هو الممر التلسكوبي الذي يلتصق بباب الطائرة فيوصل الطائرة بصالات الركاب، ويتم من خلاله خروج المسافرين من الطائرة ودخولهم إليها).. لاحظ هذا الموظف أن الطائرة الروسية – التشارتر- قد توقفت على الفنكر لمدة 75 دقيقة، وتم تسجيل الإيصال المالي لها على أنها قد توقف 40 دقيقة فقط، الأمر الذي يفوت على خزينة مبلغاً من المال لا يوجد أي مبرر لتفويته، إذ أن إشغال أي طائرة للفنكر يُلزمها دفع بدل نقدي قيمته (80) يورو للساعة الأولى و(20) يورو عن كل ربع ساعة تالية.
سارع الموظف إلى إثارة الموضوع مع مدير المطار، فأهمل الأخير الموضوع، فعاد الموظف وأثار الموضوع مع رئيس قسم الفناكر، فلم يستجب له أيضاً، الأمر الذي أثار حفيظته، وجعله يراقب كل ما يدور في قسم الفناكر، ليكتشف أن عدداً كبيراً من الطائرات لا يتم تسجيل توقفها على الفناكر، والكثير مما يتم تسجيله لا يتم فيه تسجيل الزمن الحقيقي للتوقف، وهو ما يشير إلى وجود تلاعب مالي واضح، فما كان من هذا الموظف إلا البحث عمن يساعده ويرفع صوته بالشكوى، فتعرف على عضو مكتب نقابة النقل الجوي في مؤسسة الطيران العربية السورية، وشرح له الوضع كاملاً طالباً منه إيصال صوته إلى كل الجهات المعنية وممارسة دوره كعضو مكتب نقابة. وبالفعل قام عضو مكتب نقابة النقل الجوي بإثارة هذا الموضوع في اجتماع مكتب النقابة، الأمر الذي أدى إلى انسحاب عدد كبير من أعضاء المكتب النقابي رافضين التوقيع على محضر الاجتماع ما لم يتم حذف كل ما تمت الإشارة إليه بخصوص شبهة الفساد في الفناكر، فلم يوقعوا على المحضر إلا بعد أن أزالوا بالمصحح (الكوريكتر) كل حديث بهذا الخصوص.
لم يستسلم المذكور أمام ما حصل، بل استمر في ملاحقة ومتابعة هذا الموضوع لدى أكثر من جهة ومسؤول، إلى أن تكللت جهوده في المتابعة والملاحقة بأن قام المدير العام للطيران المدني بتشكيل لجنة فنية ومالية من ستة أعضاء برئاسة مديرة الشؤون الاستثمارية في الطيران المدني بموجب أمر إداري رقم /145/ ص 3 بتاريخ 19/5/2009، مهمتها دراسة وتدقيق مواضيع الاستثمار في مطار حلب الدولي وتنظيم محضر أصولي بذلك.
عمل اللجنة وتقريرها وتوصياتهها
باشرت اللجنة عملها فور صدور الأمر الإداري، وقامت بالاستماع إلى إفادات الموظفين المعنيين بالأمر والتدقيق في السجلات والفواتير. والأهم من ذلك قامت بإجراء مقارنة بين سجلات مطار حلب وسجلات مؤسسة الطيران العربية السورية. وقد رفض مدير المطار التعاون مع هذه اللجنة رغم مخاطبتها له رسمياً ومطالبته بالحضور للاستماع إلى رأيه بالمواضيع الاستثمارية، وأصر على عدم التعامل بشكل كامل مع هذه اللجنة.
ومع ذلك فقد اجتمعت اللجنة الفنية المالية بتاريخ 26/5/2009 وأصدرت تقريرها. وأهم ما جاء فيه:
هنالك فروقات كبيرة لزمن توقف الطائرة على الفنكر بين سجلات المطار وبين سجلات البرج. وخاصة على رحلات البريطانية.
تم أخذ عينة عشوائية من ملفات الرحلات لدى مؤسسة الطيران العربية السورية، وقد ثبت وجود تباين بين الزمن الحقيقي للتوقف على الفنكر والمأخوذ من سجلات السورية، والزمن الذي تم على أساسه تحصيل البدل في سجلات الطيران المدني. وقد تم إعداد جدول بذلك، ومن خلال الاطلاع على جدول العينة نلاحظ أن الفروقات بين الزمنين تتجاوز الضعف.
تباين في بدل خدمة الإنارة الملاحية وآليات السلامة بين سجل حركة الطائرات اليومية ووصولات تحصيل رسم الخدمة.
وجود نماذج بعدم وقوف بعض الطائرات على الفنكر نهائياً بالنسبة لسجلات الطيران المدني، ووقوفها على الفنكر بالنسبة لسجلات مؤسسة الطيران العربية السورية.
إخفاء سجل تشغيل الفناكر لعام 2007 بحجة أنه لا يوجد مثل هذا السجل بالرغم من تأكيد العديد من موظفي الفناكر على القيام بتنظيمه.
استنتاجات اللجنة
وبالمحصلة، فقد خلصت اللجنة إلى الاستنتاجات التالية:
سوء في الإدارة، وقيام مدير المطار باستخدام مركزه للتأثير على الموظفين وإجبارهم على تغيير السجلات الرسمية في المطار والتوقيع عليها.
عدم وجود تنسيق بين دوائر المطار بسبب المركزية في اتخاذ القرار واستبعاد وتهميش كثير من الكفاءات.
عدم وجود تنسيق بين الخطوط السورية وإدارة المطار مما ترتب عليه ضرر بالمصلحة العامة.
قيام مدير المطار بإصدار تعليمات تفيد بعدم التعامل مع بعض موظفي الخطوط السورية، الأمر الذي ترتب عليه إرباك العمل وعدم انتظامه.
هدر في المال العام نتيجة استيفاء الرسوم لقاء خدمة الفناكر والإنارة وآليات السلامة بشكل صحيح وكامل.
تشغيل واستثمار الفناكر وآليات السلامة بشكل غير صحيح بالرغم من وجود تعليمات واضحة وصريحة من مجلس الإدارة.
عدم اكتراث مدير المطار باللجنة ورفضه التعاون معها بالرغم من طلب ذلك منه خطياً.
ونتيجة دراستها التفصيلية للسجلات وإفادات الموظفين المعنيين، فقد توصلت اللجنة إلى المقترحين التاليين:
إحالة الموضوع إلى الجهاز المركزي للرقابة المالية كجهة رقابية مختصة، حيث ثبت للجنة من خلال تدقيقها وجود اختلافات في السجلات والتي تم على أساسها تنظيم فواتير المطالبة المالية، مما ترتب عليه حدوث هدر وتفويت منفعة للمصلحة العامة.
كف يد مدير المطار بصفته المسؤول عن الهدر الحاصل في استثمار الفناكر وآليات السلامة والإنارة الملاحية مع خمسة من الموظفين في المطار .
وقد وقعت اللجنة بالإجماع على هذا المحضر ومقترحاته، فماذا كانت النتيجة؟؟!
مرحلة ما بعد محضر اللجنة
شكل محضر اللجنة نقطة انعطاف في القضية، ومع ذلك، جاءت النتائج غريبة وغير متوقعة، فإدارياً:
تم طي هذه المحضر وتجاهله تجاهلاً كاملاً وكأنه لم يكن.
تم تشكيل لجنة جديدة بقرار من وزير النقل يعرب بدر برقم /1121/ تاريخ 22/6/2009، مؤلفة من ثمانية أعضاء برئاسة معاون وزير النقل لشؤون النقل الجوي. مهمتها: تدقيق الاستثمار في مطار حلب الدولي، وكذلك تقرير اللجنة المشكلة من قبل السيد مدير عام الطيران المدني بالأمر الإداري رقم /145/ ص3، على أن تنجز هذه اللجنة أعمالها خلال أسبوعين من تاريخه وتقدم تقريرها للوزير. وقد أنهت هذه اللجنة الجديدة أعمالها التي من المفترض أن تنتهي في النصف الأول من الشهر السابع ويُسلم التقرير إلى وزير النقل.
بقي تقرير اللجنة الثانية المشكلة بقرار الوزير طي الكتمان حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، فلم يعرف أحد حتى اللحظة بما أوصت هذه اللجنة. ويتساءل العاملون في المطار وفي مؤسسة الطيران المدني إن كانت اللجنة الثانية قد أثبتت وقائع الفساد وهدر المال العام كما أثبتت ذلك اللجنة الأولى، أم أنها أدانت تقرير اللجنة الأولى؟؟؟ علماً أن هذا عملها وفق قرار الوزير بتشكيلها.
فإن كان تقرير اللجنة الثانية قد أثبت ما خلصت إليه اللجنة الأولى، فإنه من المفترض بالوزير أن يأخذ باقتراحات اللجنة بإحالة الملف إلى الهيئة المركزية للرقابة المالية وبكف يد المدير والمسؤولين الأربعة الواردة أسماؤهم أعلاه.
أما إذا خلصت اللجنة الثانية إلى أن اللجنة الأولى قد زيفت ولفقت الوقائع الواردة في تقريرها، فإنه من المفترض أن تحاسب اللجنة الأولى على هذا التزييف والتلفيق وأن تحال إلى التحقيق عبر الجهات الرقابية.
أما أن يُطوى تقرير اللجنة الأولى وكذلك تقرير اللجنة الثانية ويبقى الوضع كما هو عليه ولا يقوم السيد وزير النقل بأي إجراء، فهذا ما يحتاج إلى تفسير.
نتائج مدهشة
إذاً، لم يأخذ أحد بتقرير اللجنة الأولى واللجنة الثانية، وبقي الوضع كما هو عليه، فلم يُحل الملف إلى الهيئة المركزية للرقابة المالية، كما لم يتم كف يد مدير المطار ولا المسؤولين الأربعة عن الفساد وهدر المال العام. ولم تتم مساءلة المدير الموجود وهو حتى الآن على رأس عمله. وقد أكد عدد من شهود العيان، والمعنيون المباشرون، أنه يمارس سلوكاً غير قانوني بحق كل من ساعد اللجنة الأولى على كشف الفساد وهدر المال العام.
فحسب الشهادات، تم الضغط على الموظف المؤقت، مكتشف الفساد، بأشكال مختلفة، وصلت حد الحجر والتسكيت بالإكراه والنقل والحسم، ومن ثم الضرب والتهديد انتقاماً منه لشهادته السابقة أمام اللجنة الأولى، وأملاً في تقديمه شهادة جديدة تنسف الشهادة الأولى.
ورداً على كل ذلك، قام هذا الموظف برفع دعوى قضائية ضد مدير المطار، وقد حرر محضراً في قسم شرطة الميدان بحلب بتاريخ 3/10/2009 بواقعة الاعتداء عليه وتهديده.
وهناك من يرى أن نفوذ مدير المطار قد وصل إلى القضاء، والحقيقة أنه لدينا في قاسيون مجموعة من الوثائق التي تؤكد أن هنالك تغييراً متعمداً ارتكبه كاتب محضر المحاكمة – وربما غيره – لأقوال الشهود.
وأخيراً تكللت مكافأة الموظف المؤقت بفصله من عمله وذلك بقرار إنهاء عمله الصادر عن المدير العام للطيران المدني بموجب القرار رقم /1392/ بتاريخ 30/12/2009.
أما المهندس الموظف في مؤسسة الطيران العربية السورية وعضو مكتب نقابة النقل الجوي، فبعد أن أدلى بشهادته أمام اللجنة الأولى والثانية كما يمليه عليه ضميره، وأثار القضية في مكتب النقابة، جاءه جواب اتحاد نقابات العمال بأن قام بتجميد عضويته من مكتب النقابة بحجة أن الأكثرية في مكتب النقابة لها رأي مغاير لرأيه في القضية، ولا يمكن تجاوز رأي هذه الأكثرية!.
ويؤكد هذا المهندس أنه يتلقى تهديدات بأنه سيتم فصله من عمله بقرار من رئيس مجلس الوزراء.
أما ما يتعلق برئيس دائرة المراقبة الجوية الذي رفض التوقيع على سجلات مزورة بناء على طلب إدارة المطار، وقدم إفادته أمام اللجنتين كما جرى في الواقع وكما يمليه عليه ضميره، وتقدم بإفادة كتابية إلى اللجنة بتاريخ 2/7/2009، فهو أيضاً مايزال يتوقع فصله من العمل بقرار من رئيس مجلس الوزراء..
ماذا بعد؟
تشكل هذه القضية تحدياً حقيقياً للجهات الإدارية والرقابية ذات الصلة، لتثبت مدى جديتها في متابعة مختلف القضايا التي يُشتم منها رائحة فساد، وبالتالي وضع النقاط على الحروف، والحسم النهائي بما يتوافق مع الوقائع كما جرت وتجري فعلياً.
وإذا كانت مهمتنا كصحافة وطنية الإضاءة على بعض التفاصيل والزوايا المعتمة في شتى المواقع والمواضيع، فإن على هذه الجهات أن تأخذ على عاتقها السير بالقضايا كافة إلى نهايتها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتحويل المتورطين بالفسادإلى القضاء وإطلاع الرأي العام على خلاصة عملها.
إذاً، جلَّ ما نتمناه في «قاسيون» أن تمضي الأمور في الاتجاه الصحيح.