مطبّات: الرهان
يتماهى الصغير مع الكبير في كل شيء.. في كذبه وتبجحه، في رسم صورة جميلة للواقع المرير في التسويف، في تحويل الأسى إلى مشروع من الفرح على الخطة الخمسية.
يتماهى المسؤول الصغير مع المسؤول الكبير حتى في النطق، في شكل الحرف الخارج من الحنجرة التي تعودت ترديد الأكاذيب بلحن سحري، في نطق المبررات، في الحديث عن ضعف الإمكانيات، والعوائق الخارجية، حتى في أكثر حالاته شفافية عندما يريد قول الحقيقة يلقي بالتقصير واللوم على من دونه، مهدداً بحملة واسعة لقمع الفساد والموظفين المعتاشين على الرشوة، هذه حال رؤوساء البلديات في ريفنا الذي كان جميلاً.
مع الأزمات الكبرى التي تعصف بالاقتصاد السوري.. تلك القادمة من السماء، وسواء تلك التي كان سببها (الوقود الحيوي)، مواسم الجفاف المتتالية، ارتفاع أسعار الوقود، ونمو شريحة الوسطاء والسماسرة بشكل سرطاني، الدولة التي تشتري القمح من الفلاح بزيادة نصف ليرة بعد النصف، التجار الذين يرون في أزماتنا مواسم ربح.. كل هذا الصدأ الذي ينخر الاقتصاد.. مع تصريحات نارية من الفريق الاقتصادي بزيادة النمو، وازدياد الأجور والرواتب، الزيادة العادية في الأسعار، التدخل في تثبيت أسعار السوق تقديم الدعم للمواطن، توزيع الدعم على مستحقيه، المؤتمرات الاقتصادية التي تتواصل... سياحة وصناعة، الصفقات الاقتصادية، دخول المنظمات التجارية، الإقليمية، العربية، الدولية، الحلم بالشراكة مع أوروبا.. كل هذا النجاح الاقتصادي الذي تعيشه سورية لم ينعكس على المواطن، كانت كل هذه التصريحات في الجانب غير المطل على حياته، وكل هذه المؤتمرات يتم استثمارها من طبقة ابتعدت كثيراً في شبعها، وتخمتها، تكرشها، عن الطبقة الأخرى الشاسعة الجائعة المنطوية التائهة.
في البرنامج الصباحي (نهار جديد) الذي تبثه القناة الأولى كان التقرير اليومي عن تجمع بائس يسمى (الكسوة الشرقية)، وجاء التقرير واقعياً، لا كهرباء، لا ماء، لا إسفلت، لا هواتف، سماها التقرير ببساطة (حارة نسيها الزمن)، كما في الريف الذي لم يعد جميلاً، البؤس الذي يخط وجوه الناس، يوصل الماء سواء كان صالحاً للشرب أو غير ذلك بـ /30/ ليرة، الخبز غير متوفر في الحي لأن المخابز الاحتياطية انتزعت كشك الخبز من الحي، شبكة الماء غير موجودة، الهواتف بعيدة في زمن يتفوه به كل المسؤولين عن وصول الكهرباء إلى أقاصي الريف، عن الملايين المهدورة في حفر شبكات الماء، عن الملايين التي صرفت على الصرف الصحي، عن دعم الخبز وتوفره، عن الأزمات المفتعلة التي تتدخل لحلها الدولة كلها، عن وعن وعن... إلخ.
رئيس بلدية (الكسوة) تحدث عن إجراءات منذ خمس سنوات لتحسين معيشة الناس في هذا الحي عن تنفيذ 90 % من خطة تعبيد الطرقات، عن النية في إيصال مياه الشرب، عن التداخل بين بلدية الكسوة ومحافظة القنيطرة، لكن المذيع الذي لم ير أي تطابق بين أقوال المسؤول الصغير والصور التي نقلها التقرير بين الواقع الحقيقي والكذب المكشوف الذي يكرره المسؤول بين المعاش والتحدث من وراء كرسي صارع للوصول إليه بالرشوة، المملاءة والتوسل حيث من في السلطة الأعلى لا يرى لايشاهد لا يقرر لا يتصرف، أليس من عقوبة رادعة للكذب المكشوف العلني، أليس من سؤال أين تذهب هذه البلديات بالميزانيات المرصودة لها، أليس هناك من يكشف، من يفتش، كيف تصرف تلك الملايين، أين هي هذه المشروعات التي لم تزهر في حي منذ خمس سنوات، لم تغير شيئاً في حياة الناس بل ازدادت حياتهم بؤساً وصعوبة، لكنه التماهي بين الصغير والكبير في الحديث على انجازات من ورق، بطولات من هواء مسموم.
تساءل أحدهم في نهاية اللقاء مع رئيس البلدية هل تراهن على تغير حال الحي؟ أجاب المذيع كمن يريد توريطه: نعم صديقي.
الذي كان يتابع معي اللقاء نظر إلي بخبث قائلاً: تراهن؟
قلت له: قد يتغير شيء واحد، رئيس البلدية.
قال بخبث: سوف يمدد له لدورة أخرى.
إنهم الناس في رهانهم على التصريحات، في يأسهم المشروع، مسؤول في أثر مسؤول، مجلس بلدي يستلم من سابقه، والكل في إيقاع واحد، تصريحات كاذبة، وعود لا تتحقق، تحمي المسؤول الصغير مدة مسؤوليته في دورة كذب، دورة انتفاع يجمع ما يمكن له أن يجمعه، وهذه دورة أتقنها الصغير من معلمه الكبير، والرهان الذي يردده الجميع: لاجدوى..
■ ع ـ د