التأمينات الاجتماعية... «تشليح» سافر!

التأمينات الاجتماعية... «تشليح» سافر!

طالما كان تزاوج البيروقراطية مع الفساد في المؤسسات العامة هماً، أثقل وأرهق ليس فقط الأفراد بل والمؤسسات أيضاً، ونخر أساساتها في العمق، وأخرجها عن دورها، فصارت تعشعش بشبكات فساد متحصن بأسوار رسمية ومحمياً على مستوى عال، وهنا الحديث عن مؤسسة التأمينات الاجتماعية بحلب، حيث تتالت شكاوى المواطنين من واقع المؤسسة الذي تداعى إلى حد غير مقبول.

 

فبعد ضرب مقرها الرئيسي من قبل المسلحين في منطقة «باب جنين»، ووقوعها تحت رصاص القنص على خط النار الأول، تم تحويل المقر إلى مكان آخر، لتسهيل شؤون المتقاعدين والموظفين، باعتبارها معنية بتنظيم أوراقهم التقاعدية ومعاشاتهم وتنظيم ملفاتهم.

مكاتب أم مراكز للسمسرة؟

بقيت هذه الأضابير بالمقر الأساسي وتم سحب بعضها من خلال متطوعي الهلال الأحمر بين فترة وأخرى حسب طلبات أصحابها، لكن ذلك كان يمتد إلى عدة شهور بسبب المعارك في المنطقة، ما اضطر المتقاعدة «أم أيمن» للانتظار عامين كاملين حتى استطاعت الحصول على إضبارتها، إلا أن انتظارها لم يكن بسبب المعارك، وإنما لأنها لم تلتفت لضرورة دفع «المعلوم» إلا متأخرةً، كما قالت لنا: «تعامل الموظفون معي بتكتم شديد حتى تمكنت من خلال بعض السماسرة لتسهيل عملي، ووصل مقدار ما تم دفعه إلى 15000ل.س!».

إهمال مقصود

أبو محمد لم يستطع سحب إضبارته رغم تراكم العديد من أضابير المواطنين في زوايا المكان بطريقة عشوائية ومهملة بطريقة محزنة، يقول: «لا أحد يدرك كم تستلزم من الوقت والجهد والمال لاستصدار كل ورقة منها بهذه الظروف والأوضاع، لتكدس في النهاية وترمى بين الأرجل دون أن توجع أحد إلا أصحابها»، وهو ما اضطره لسحب قرار التأشير لدى الجهاز المركزي للرقابة وتصديقه بعد وساطات ومفاوضات امتدت لأسابيع للاتفاق على المبلغ الذي سيدفعه لقاء تسهيل طريق هذه المعاملة والإمساك برأس الخيط للمباشرة بالعمل.

تضليل

أريج، توفيت شقيقتها منذ ثلاث سنوات بسبب عمل إرهابي، وللآن لم تستطع أن تستصدر ورقة واحدة في معاملتها، حتى وصلت إلى أحد الموظفين واتفقت معه على تسيير أمورها بعد أن علم أنها تحاول سحب رواتبها المتراكمة منذ ثلاث سنوات وتحويلها باسم ورثتها، ليبدأ بفرض الأوامر وتشتتيت القضية وتوسيع دائرتها والمماطلة إلى أقصى حد.

تؤكد أريج: «أرسلني إلى دائرة القروض في المديرية، وكانت رئيسة الدائرة في إجازة، وبعد الانتظار لمدة عشرة أيام، راجعتها، فنفت علاقتها بالموضوع مؤكدة أنه ليس من اختصاصها، لأكتشف أن الموظف المعني بالأمر هو مجاور للموظف الذي كان يدير معاملتي، وقد منعه من إحالتي إليه لوجود خلاف بينهما على تقاسم حصصهم في معاملة أخرى»، وأضافت: «كانت معاملتي لقمة دسمة تناهشتها براثن «النهّابين» كل حسب تسعيرته»، فحلت بذلك أول عقد مشكلتها، وتم تحويلها إلى المصرف العقاري وأخذت رواتب شقيقتها المتوفاة مع التصفية.

عقلية بيروقراطية

واقع تراكمت فيه معاناة المواطنين الخارجين من التأمينات الاجتماعية الذين أجمعوا على تغول الفساد، فرغم دفع العمولات والرسوم والطوابع وتصوير مطبوعات لا طائل منها، وتكرار المطالبة بالمزيد من الأوراق بشكل عبثي لا تفسير له سوى أن هناك سمسرة من نوع آخر تجري بالاتفاق مع «المستخدمين» المسؤولين عن التصوير أو بيع الطوابع والمطبوعات الرسمية بأسعار تفوق سعرها الحقيقي. 

ذلك كله كان هيناً أمام واقع سَمَحَ أن يقرأ موظف هنا أو هناك الإضبارة، ويرتجل بعدها طلبات تحتاج إلى مراسيم وقرارات على مستوى إداري أعلى، أو إيقافها وإلغائها، حالة يكون أمامها محاولة إفهام هذا الموظف وأمثاله خطيئة عقابها الإهمال والتأجيل.

واقعٌ، تحولت فيه مؤسسات الدولة لمكاتب سمسرة محمية من متنفذين وفاسدين، يقع المواطنون ضحيته ويدفعون ثمنه، ومما زاد الطين بلة أن نداءات المطالبة بقطع أيادي من يسمسرون ويتلاعبون بحاجات الناس، ومحاولات معالجتها الشكلية، عادت لتظهر بشكل أقوى من داخل هذه المكاتب.