مطبات لونان لوجه واحد
بكثير من الرفق، وبصوت حنون، وبخطبة فيها بعض الدعابة والطرافة، وعلى غير عادته، كان «المناضل الثوري» يصيح بالعمال: لن ندع حقوقكم عرضة للتجار وأصحاب المعامل الأغنياء، سنحدد ساعات العمل، والأجر الجيد، ونحقق العلاج المجاني، الضمان الاجتماعي، مكتسبات حركتنا النضالية لن نسمح لأي كان أن يمسها، لن نقبل بحلول جزئية..
أستاذ المدرسة، العصا سقطت من يده، ينبري لقضايا الأمة، الضمير، الشعر الملتزم، الأخلاق، يضع يده على حافة الطاولة، الأصابع المجعدة الملوثة بالحبر الأسود، والطباشير الملونة، ينفخ الآه: كان العلم يطعم ويغني من جوع، وكان الأستاذ منصباً اجتماعياً ومالياً كبيراً، كان التلاميذ يفرّون من طريق المعلم كأن ديناصوراً دخل الحي.
بعد انتهاء الدوام الطويل، يعود الأب إلى البيت محملاً بالخبز المبروم، بعض الفواكه والحلويات، رأس خروف مشوي من (باب السريجة)، مجموعة من أقلام الرصاص والحبر الناشف، ودفترين قياس 50 طبقاً، يدخل البيت، الأولاد قرب المدفأة يدرسون، الزوجة تعد الغداء، التلفاز مطفأ، يقف الأولاد، عبارات الترحيب، الأدعية، النظرات المحبة، وفي المساء يستلقي الأب المتعب على فراشه وأمامه كأس الشاي ومنفضة السجائر، الأم تعيد الدروس التي حفظها الأطفال، في العاشرة تصبحون على خير.
في الجامعة، يتحلق الطلاب حول الطاولات، الانتماءات تتعدد، لكنها تحت سقف كبير يسمى الوطن، الوجوه معبرة، يقرأ الطلاب الكتب، ليست الزرقاء فقط، كتباً بألوان أخرى: حمراء وخضراء وبيضاء، ويصطرعون حسب الانتماء، الألبسة تتشابه، تتوحد، بسيطة وسافرة، الإناث بالتنانير الواسعة، والجدائل المربوطة، والقلوب الرقيقة، على الطاولات ألف وجه ولون وجسد، ألف اتجاه وعقل.. لكنه الوطن.
في الوظيفة، أكمام بيضاء تلم الوسخ عن كم الطقم الوظيفي، لكنها لا تلم الهدايا والرشاوى، المدير وراء الطاولة يقلب الإضبارة ويضع توقيعه على الصفحة الأخيرة، وينفخ على الخاتم ليلصق الحبر، الموظف آخر الشهر يلم ما تبقى من راتبه، (المطمورة) تكاد تمتلئ، الزواج، البيت، مشاريع قادمة وتحتاج لقليل من الصبر، وأهل الموظف يتفاخرون في حيّهم بابن الحكومة!
الوزير يطوف على المنشآت التابعة لوزارته، المؤسسات والدوائر، يحفز الموظفين، يعد النشيطين بالمكافآت، والمقصرين يشد من أزرهم ويتحدث عن العقوبة بنعومة، الزيارات لها برامج دائمة، والمكتب الوزاري يأخذ وقتاً بسيطاً لتوزيع الوظائف وبناء الاستراتيجيات مع مستشاريه، يعود في المساء، بريد الوزارة وما يتبع لها، بريد المواطنين.
فيما تقدم.. أسقط «المناضل الثوري» كل شعاراته، وصارت من الماضي، طبع كتيباً صغيراً عن تاريخه وتاريخ الحركة النضالية، الآن لا نقابات قادرة على أن تدافع عن نفسها، فكيف إن أرادت الدفاع عن العامل، الآن سفر مأجور إلى دول العالم الرأسمالي ومازال «يتمسك» بالاشتراكية، سيارة فاخرة مرسيدس سوداء، وطبقة عاملة خائرة.
الأستاذ الديناصور صار وجهه في المرآة مثار رعب له، سقطت هيبته، الطالب في المساء يمد له بعض المئات لقاء درس خصوصي، في الشارع الذي يقود إلى بيته يلتف مع الحواري التي تخفيه عن الدائنين، الأصابع الملوثة بالحبر والطباشير لم تعد مقدسة.
الأب لا يدخل البيت إلا والأولاد نيام، لم يعد يحمل الأكياس المليئة بما لذ وطاب، المسلسلات التركية حلت محل الدراسة، الأم عند الجارة، الأب ينام ببذلة العمل بشخير طويل.. ووظيفتين.
الموظف الذي فرغت مطمورته، انكسرت كل أحلامه، أمه التي كانت تعتز بوظيفة ابن الحكومة ماتت، الموظف رمز من رموز الفساد والرشوة.. العار.
الوزير في مكتبه، سيارته، مؤتمره الصحفي، مؤتمره السنوي، جولاته الميدانية تقتصر على التدشين في المناسبات، لا استراتيجية إلا في البقاء على الكرسي، ورضا الله والوالدين.
الجامعة تتشابه فيها الوجوه، الأيدي، الأفكار المائعة والمطربون المخنثون، الأولاد بشعور طويلة وسراويل واطئة، إلا ما ندر، وطاولات تعج بالمكسرات والبطاطا المقلية وأكياس الديربي، وأحاديث عن مطربين جدد، ممثلات MBC2، وموبايلات حديثة.. إنه الانتماء.
وجهان تقابلا.. الصراع قاب قوسين من الحسم، تبدو النتيجة الأولية متشائمة، لم نعد نحن على الأقل نراهن على وجوهنا.. وجوه السوق المفتوح على بلوتوث التغيير تبتسم شامتة، إلى حين..