وتستمر معركة الشرفاء مع الفساد..

يمر وقت طويل قبل أن يستطيع القلة من الشرفاء الصامدين في أجهزة الدولة المختلفة الظفر بقرار يمكن أن يؤدي بالمعنى الاستراتيجي إلى السير بالبلاد خطوة إلى الأمام، فالفساد الذي راح يحكم ويتحكم بمصائر الإجراءات والتوجهات والتشريعات والخطط العامة منذ زمن طويل، وأسس في هذه الإطار سلسلة متشعبة من نقاط الارتكاز البيروقراطية والنظرية القادرة على عرقلة أية مشاريع أو أفكار تنأى عن منظومته، بات أقوى من أن يتم تجاوزه كثيراً بقرارات قد يكون لها انعكاسات إيجابية على الشعب والوطن.. وبالتالي، وضمن هذه الخريطة المعقدة التي يضطر كثر من أصحاب الأيدي النظيفة غير اليائسين على العمل في ظلها وتحت سطوتها، يصبح من الصعب جداً إحداث أكثر من اختراق واحد في جبهة ما، والأصعب هو المحافظة على محتوى هذا الاختراق وإبقاء إحداثياته في الاتجاه ذاته..

إن الأجواء الموبوءة التي ترعرع فيها الفساد بفضل هوامش النهب الواسعة التي فتحها بعض المتنفذين الانتهازيين داخل جهاز الدولة بالتواطؤ مع قوى السوق والسوء الكبرى، ومن ثم داخل البلاد برمتها، والتي واكبها تضييق على قوى المجتمع الحية وعلى جهات الرقابة والمحاسبة، وساعد على تفشّيها وتكريسها مناخ دولي مؤات فكرياً وسياسياً، أدت بداية إلى نزوح معظم الكفاءات النزيهة خارج أطر المؤسسات الحكومية بتنوعها، وحلول آخرين أقل كفاءة وإخلاصاً وأكثر جشعاً محلهم، ثم أسست لواقع إداري وإيديولوجي وأخلاقي شديد الرداءة، وهو ما نتج عنه في النهاية هذه اللوحة القاتمة التي لا يكاد يظهر فيها أية نقاط مضيئة.. وهكذا أصبحت أية محاولات جدية لإعادة وضع الأمور في نصابها عبر محاربة الفساد، هي بمثابة الكفر، وقد يحاسب القائمون عليها حساباً عسيراً من الفاسدين، ولعل هذا ما جرى مع الوزير والمفكر الراحل د. عصام الزعيم، ومع د. رئيف مهنا المدير العام السابق للشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، وما هما إلا مثالان قريبان، ولعل هذا أيضاً ما أصاب «معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية» الذي كان من أبرز أهدافه عند تأسيسه بضغط من الشرفاء، خلق كفاءات علمية نزيهة تحل محل الفاسدين الذين أنهكوا المؤسسات والشعب بأميتهم وأنانيتهم واستقوائهم بسلطاتهم، ولكن سرعان ما حاصره الفاسدون وجردوه من معظم غاياته أولاً، ثم حاولوا ويحاولون أن يطلقوا عليه رصاصة الرحمة بتهميش أو «تطفيش» معظم كادره التدريسي الرفيع المستوى..

لقد ابتكر الفاسدون باختلاف صورهم وأفكارهم وأثوابهم، نتيجة تربعهم الطويل في مواقع حساسة، أشكالاً لا تحصى لإجهاض المحاولات التي من شأنها الخروج من مستنقع التخلف والترهل الذي توشك البلاد أن تغرق فيه، وهم يبذلون الآن أقصى ما بوسعهم للاستمرار على سيرتهم ونهجهم، ولكن المختلف اليوم، أن أدواتهم وأساليبهم وذرائعهم أصبحت قاصرة وسافرة أمام التطور والتراكم الحاصل في المجتمع، وأمام بداية اليقظة التي تشهدها بعض الفعاليات الوطنية والشعبية، والأمل بات كبيراً في إزاحتهم أو الحد من غلوائهم في المدى المنظور، وما على الشرفاء إلا الاستمرار بالصمود أكثر، فلعبة عض الأصابع قد شارفت على نهايتها..