مؤسسة التأمينات: مَن يحمي أصحابَ الحقوق؟!
نذ ما ينوف عن سنة، ومؤسسة التأمينات الاجتماعية تتعرض لهجمات متتالية عبر ما يسمى الدراسات الاكتوارية، التي حفظتها وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل عن ظهر قلب، هذه الدراسات التي دخلت ديارنا بعد الاتفاقية المعروفة التي وقعتها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مع البنك الدولي لإجراء دراساتها في مؤسساتنا، والتي خلصت إلى نتائج خطيرة عن المؤسسة، وأهم تلك النتائج أن المؤسسة إن بقيت على وضعها الحالي فإن عجزاً كبيراً في السيولة ستقع فيه عام 2017، هذه المؤسسة التي كانت وما تزال المرجعية الوحيدة من نوعها في الدولة والقطاع الخاص والمشترك والتعاوني معاً، نظراً للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الطبقة العاملة في القطاعات الثلاثة، والتي تتطلب من جميع القوى الخيرة في البلد، الدفاع عن حقوقها من أجل تحسين مستوى معيشتها، وتحقيق التنمية والنمو الاقتصادي الحقيقي الذي يضمن ويكفل كرامة المواطن على أرض الواقع.
مؤسسة التأمينات الاجتماعية ورغم الحصار الذي تعانيه منذ ما يقارب السنة تحت حجة التشكيك في الدور الذي تلعبه، ستبقى دعامة أساسية من دعائم نظام الحماية الاجتماعية التي تدخل إلى قلب العامل الاستقرار والاطمئنان الضروريين لكي يبقى مؤمّناً عليه ضمن مبدأ التكافل الاجتماعي.
أسئلة بالجملة
هذه المقدمة التي تعبر عن حرصنا على مؤسسة التأمينات الاجتماعية وحمايتها من سموم البنك الدولي، تدعونا أن نطرح جملة من الأسئلة حول مستقبل هذه المؤسسة، خصوصاً أنه لابد من توسيع المظلة التأمينية في سورية بخطوات عملية أكثر، وإجراءات سورية خاصة بعيداً عن إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وخبرائهما الاكتواريين المدللين لدى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، هذه الإجراءات التي ستكون محطة العبور في تطوير آليات العمل والنهوض على جميع المستويات بالواقع التأميني من خلال صناعة سورية خالصة بالاعتماد على الكادر الوطني وما أكثره، هذا الكادر الذي يعلم ببواطن عمل المؤسسة.
إن المناقشة التي سنقدمها في تحقيقنا هذا ستجيب تلميحاً أو تصريحاً على بعض الأسئلة المتعلقة بظروف عمل المؤسسة، أما بعضها الآخر فسنترك الإجابة عليه للمؤسسة وإدارتها.
وسنبدأ بالتفاوت الكبير في عدد المؤمن عليهم بين فروع المؤسسة، هذا التفاوت الذي يعني فيما يعنيه، وجود خلل كبير في عدد المؤمن عليهم أو بالإحصائيات التي تقدر هذه الأرقام، ونقطة التفاوت التي اعتمدناها هنا هي دراسة كل محافظة على حدة من خلال التطور الصناعي وعدد المعامل والشركات التي تعكس بالضرورة زيادة عدد العمال، فالمعطيات الاقتصادية الموجودة بين أيدينا، وإنشاء المدن الصناعية الكبرى تفرض علينا القول بأن أعداد المؤمن عليهم يجب أن يكون في حلب أعلى من بقية المحافظات باعتبارها كبرى المدن الصناعية في سورية، وتأتي بعدها محافظة ريف دمشق، ثم دمشق، ومن بعدها حمص، ولكن الأرقام التي جاءت في التقرير السنوي لمؤسسة التأمينات الاجتماعية لعام 2008 تقول العكس تماماً، فتطور عدد العمال وأصحاب العمل لغاية عام 2007 من إجمالي القطاع العام والخاص، كان في دمشق /611156/ عاملاً، بينما في حلب التي من المفروض أن تكون النسبة فيها أعلى بكثير فلم يتعدّ /241993/ عاملاً، وفي ريف دمشق المكتظة بالمعامل والشركات الكبيرة والصغيرة لم يتجاوز العدد الـ/57819/ عاملاً فقط، وفي حمص التي تمتلك كبرى المدن الصناعية في سورية لم يصل عدد العمال فيها إلا إلى /143860/ عاملاً، والمفاجأة أنه في نهاية عام 2008 لم نلاحظ زيادة في الأعداد السابقة، وهذا يعني خللاً وتقصيراً في عمل جولات لجان التفتيش، ففي حلب لم يزد العدد عن /11.000/ تقريباً، وفي دمشق العاصمة المراقبة فعلياً بشكل يومي من المؤسسة، لم يزد العدد عن /17.000/، أما في ريف دمشق أيضاً فزاد العدد إلى نحو /11.000/ عامل، وفي حمص وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد بالاستثمار في الصناعة لم يزد عدد العمال عن /6.000/ فقط، وهذا التفاوت بالرقم يجعلنا نشك في الأرقام، ونضع عشرات إشارات الاستفهام على الدراسات التي يقدمها خبراء البنك الدولي، لأن الأرقام الحقيقية أو المتابعة في حصر جميع الأرقام عن عدد العمال في الشركات، والتأمين عليهم ودفع أصحاب العمل ما يترتب عليهم من أموال للمؤسسة... ينفي العجز الذي يتحدث عنه الاكتواريون ومن لف لفهم، ولعل هذه الأرقام هي التي جعلت تلك الدراسات تقر بأن مؤسسة التأمينات الاجتماعية في كل من سورية والأردن ستقعان بعجز كبير في نهاية 2017. لكن ما يدعو للضحك أن قانون مؤسسة التأمينات الاجتماعية في سورية صدر عام 1959 بينما في الأردن صدر عام 1975 أي بعد ستة عشر عاماً وهذه من المفارقات التي تدعونا أن نطرح عشرات الأسئلة عن هذه المعادلة التي لم تختلف عن معادلة النائب الاقتصادي الأخيرة في حساب الدخل الوطني مقارنة مع اقتصادي لبنان والأردن.
والسؤال هل الخبراء الاكتواريون اجتمعوا مع النائب قبل إطلاق هذه المعادلة الشبيهة بمعادلته العظيمة؟
أين تذهب المؤسسة باستثماراتها؟
الاستثمارات التي دخلت بها مؤسسة التأمينات الاجتماعية وبالاعتماد على التجارب السابقة، فيها من المخاطرة والخوف على أموال التأمينات الكثير، فالمؤسسة اشترت أرض معمل الزجاج (/42/ دونماً) من الشركة العامة لصناعات الزجاجية والخزفية، والسؤال ما هو تصور المؤسسة للمشروع الذي ستقيمه على هذه الأرض؟ وما هي خطتها المستقبلية بهذا الشأن عند حدوث أي طارئ، وهل باستطاعة مجلس الإدارة الذي أقر عقد الشراء أن يقف في وجه رئاسة مجلس الوزراء التي بإمكانها أن تأخذ الأرض في أية لحظة خاصة أنه وسبق أن فعلتها في محافظة دير الزور، عندما استولت على أكثر من /80/ دونماً لمصلحة المؤسسة العامة للإسكان.
أما الاستثمارات الأخرى فليست بأقل خطورة، كاشتراك المؤسسة في تأسيس عدد من المصارف وشراء أسهم في مصارف أخرى وبنسب رأسمال كبيرة تقدر بالمليارات، بالإضافة إلى خطتها بتوجيه الفروع في كل المحافظات للبحث عن مشاريع سياحية وعن مواقع مناسبة لإنشاء محطات وقود ذات مواصفات عالمية واستراحات في جميع المحافظات، وهنا أيضاً لابد من طرح السؤال التالي: لماذا لا تستثمر المؤسسة أموالها من خلال مشاريعها الخاصة؟
ولماذا لا يكون للمؤسسة مصارف خاصة بها، بدلاً من المجازفة لدى المصارف الأخرى التي يحوم حولها الكثير من الأسئلة والشبهات في ظل الأزمة المالية الضاربة بقوة عالمياً؟.
من المركزية إلى اللامركزية
تدعي المؤسسة بأن قيامها بتطبيق مبدأ اللامركزية في العمل، ذو أثر إيجابي فعال في القضاء على الروتين من خلال إعطاء صلاحيات واسعة للفروع في المحافظات، بحيث يتم إنجاز المعاملات وإنهاؤها مباشرة من الفرع المختص دون العودة للإدارة المركزية، تجنباً للبطء والفساد والرشوة، وأن هذا انعكس إيجاباً على العمال أصحاب المعاملات وعلى أصحاب العمل، وأن معظم اجتماعات مجلس الإدارة كانت تحث على السير في هذا المجال بالشكل الأمثل، لكن السؤال: كيف تتم إذاً متابعة الفروع البعيدة عن المراكز بعد تطبيق مبدأ اللامركزية؟ وهل الاجتماع الأخير الذي عقد في المؤسسة وكان مخصصاً في معظمه للحديث عن اللامركزية في الفروع وصل إلى مبتغاه؟ وهل كل ما جرى الاتفاق عليه يدخل ضمن العمل المؤسساتي؟.
الضربة القاضية بتعديل القانون
قد تندم البلاد، وخاصة العمال لحظة مصادقة البعض وتبنيهم لمقررات منظمة العمل الدولية التي كانت مهمتها الرئيسية في الآونة الأخيرة العمل على إجراء الحوار الثلاثي بين أرباب العمل والعمال والحكومة، هذا الحوار المغلف الذي توج أخيراً بإصدار قانون العمل الجديد ببعض بنوده المجحفة بحق العمال، وخاصة المواد المتعلقة بالتسريح التعسفي والمحاكم العمالية، ونوهنا في مقالات سابقة ونبهنا العمال وتنظيمهم النقابي من مخاطر مخططات البنك الدولي في قضايا تعديل القوانين، وقلنا: «إن وزارة الشؤون الاجتماعية أغلقت ملف التأمينات الاجتماعية مؤقتاً، حتى تمرر بهدوء مشروع قانون العمل، وبعدها لكل حادث حديث».. وبالفعل، ورغم مرور شهر على إقرار قانون العمل مازال النقاش حوله محتدماً بين كل أصحاب العلاقة، والآن، ها هو النائب الاقتصادي يصرح بأن قانون تعديل التأمينات الاجتماعية قيد الصدور، وهذا يعني أن التعديلات المطروحة في المشروع يجب أن تتوافق مع قانون العمل الذي كان مجحفاً للعمال، والسؤال المتعلق بهذا المضمار، ألم تكن المؤسسة تعلم أنه بمجرد صدور قانون العمل سيتم تعديل قانون التأمينات الاجتماعية؟ وهل للمؤسسة أي تصور لمشروع القانون الجديد في المرحلة القادمة في ظل انعدام الثقة بين العمال وأرباب العمل؟.
الإيرادات والنفقات
في أي حديث عن الإيرادات والنفقات لابد من المقارنة بينهما لدى كل فرع على حدة، وتبدو المقارنات هذه في كثير من الأحيان كبيرة ومتفاوتة، لكن يبدو أيضاً أن المؤسسة في تناولها لهذا الموضوع حسب التقرير السنوي، تقدم مقارنة عامة بين الإيرادات الاستثمارية الفعلية والنفقات الاستثمارية، طبعاً بعد حساب جميع الحالات.. ففي تأمين إصابات العمل مثلاً تقارب نسبة الإيرادات الاستثمارية الفعلية نحو /4490108/ مليون بينما نسبة النفقات الاستثمارية الفعلية فيها تصل إلى حدود /1394421/ مليون فقط، وبذلك تصل نسبة الإيرادات إلى النفقات ما تقارب /322%/، أما تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة فنسبة الإيرادات الاستثمارية الفعلية فيه تصل لـ/17756599/ مليون ل.س، بينما النفقات الاستثمارية الفعلية فهي /15868854/ مليون ل.س، حيث نسبة الإيرادات إلى النفقات تقارب /111%/، وهذه النسب توضح جلياً الفروق في المقارنة بين الفروع. ثم هل المؤسسة تمتلك المعلومات الكافية عن الفروع الخاسرة؟ لكن يبقى السؤال الأهم هنا: لماذا تدفع المؤسسة مساعدات لهذه الفروع الخاسرة دون أية محاسبة؟ وبالتالي ما هي نسب هذه الواردات مقارنة بإيراداتها الاستثمارية؟ علماً أن أحد تناقضات المؤسسة في التعامل مع الفروع هو التساوي بين الفروع الخاسرة والرابحة في مسألة المكافآت والحوافز، ألا يحتاج هذا التناقض إلى إعادة نظر كلية؟.
الحكومة أول المتهربين ضريبياً
يبدو واضحاً أن التهرب الضريبي أصبح من صلب السياسات الاقتصادية للحكومة، وعلى الرغم من تأكيد المؤسسة في أكثر من مناسبة أن نسبة التهرب تصل إلى /30%/ إلا أن المؤشرات تؤكد أن الرقم أكبر من ذلك، فالمؤسسة عبر لجانها الخاصة المركزية التفتيشية لم تحل القضية. أحد المدراء العامين قال لـ«قاسيون»: «أصبح تشبيه المفتشين بالكلاب المسعورة في الشوارع، صحيحاً» وتابع المدير حديثه: «لذلك لابد من إيجاد طريقة لكيفية ملاحقة المعامل التي تهرب عمالها لأكثر من مرة، فترجع لجان التفتيش من دون فائدة تذكر إلا ببعض الرشاوى والهدايا».. والسؤال هل لدى المؤسسة خطة لضبط عمل المفتشين.
لكن بعيداً عن هذه النسب التي تحددها المؤسسة في تهرب أرباب العمل من تقديم أرقام حقيقة عن العمال لديهم، ألا تعد مليارات الليرات السورية «التأمينية» المجمدة كديون على الجهات الحكومية الأخرى، وخاصة الوزارات الرئيسية، تهرباً ضريبياً؟ ومن يحاسب تلك الإدارات والوزارات على ذلك؟
قد لا يصدق القارئ أن نسبة تقدير الديون المستحقة على وزارة التعليم 792.042.137 ل.س، وعلى وزارة المالية 1.123.227.029، وعلى العدل 418.331.163، وعلى الري 4.618.172.205، والزراعة 5.782.330.329، وعلى السياحة 1.106.079.896، وعلى الإدارة المحلية 3.314.675.418، وعلى الصحة 7.829.308.168، وعلى الصناعة 1.059.197.578، والطامة الكبرى هي ديون وزارة التربية التي تقدر بنحو 30 مليار ل.س..
قانون الصحة والسلامة المهنية
لا يخفى على أحد أن تحديد إصابات العمل لا يخلو من الفساد، فهناك المئات وأحياناً الآلاف من الإصابات الوهمية والمزورة، والأرقام الإحصائية لدى المؤسسة تثبت ذلك، ففي العام 2004 وصل عدد الإصابات إلى /17/ ألف إصابة، بينما انخفض عام 2008 إلى نحو /6/ آلاف إصابة فقط، أي أن المؤسسة ومن خلال رصدها ومراقبتها «المتقطعة» للمسؤولين عن تحديد الإصابات استطاعت أن توفر مئات الملايين، وهذه الملايين هي من حق العمال الذين يستحقونها، ولحالات الإصابات الخطيرة التي تضطر المؤسسة إلى معالجتها في المشافي العربية والعالمية، لكن كل هذه الالتزامات لا تعفي المؤسسة من أن تعمل من الآن بدراسة جدية لقانون الصحة والسلامة المهنية الذي أصبح بحاجة ماسة للتعديل خاصة بعد دخول مقاولات جديدة للبلد، وبعد تحرير التجارة وفتح الأسواق والانفتاح الأرعن على الاقتصاديات العالمية.. لكن السؤال لماذا تنازلت المؤسسة وإداراتها عن قانون الصحة والسلامة المهنية لمصلحة وزارة العمل المتلكئة؟
لا يمكن تجاهل أهمية الدور الذي تقوم به التأمينات الاجتماعية في حماية الحقوق العمالية، وبالتالي الحفاظ على النظم الاجتماعية في كلا القطاعين الخاص والعام، لكن على المؤسسة وضع حد للأخطاء المرتكبة بدءاً من فساد المفتشين، مروراً بأساليب استثمار المؤسسة لأموالها واختيار الأماكن الحقيقية لها؛ وانتهاء بتوسيع دائرة من تمثل مصالحهم.. وللحديث بقية..