يوسف البني يوسف البني

مواسم الخير تتحول إلى حسرات ومرارة أسعار الفاكهة والخضار الصيفية ترتفع بشكل غير مسبوق

ينتظر المواطن السوري بصبر فارغ مرور الأيام والشهور والفصول ليستقبل بقلب يستبشر خيراً قدوم فصل الصيف واسع الأبواب ومرجع الأحباب، فصل الخضار والفواكه والخيرات الوفيرة، يدغدغ أحاسيسه وآماله بحلمين جميلين: أن يستمتع ويتلذذ بمذاق الخيرات الطازجة الشهية ويعرف طعم الحلاوة رغم مرارة الأيام، وأن يخفف ولو جزءاً بسيطاً من مصاريفه التي تتطلبها سلة المعيشة اليومية، حيث أن وفرة المواسم من المفترض أن تؤدي إلى انخفاض ملحوظ في أسعار المواد الاستهلاكية والتموينية اليومية وخاصة الموسمية منها.

إلا أنه مع البوادر الأولى لمواسم الخير التي تتلألأ من بعيد، تنهار أحلام المواطن السوري على عتبات المحلات وأسواق الخضار والفواكه، ويصحو على حقيقة واحدة مرعبة تكاد تصيبه بالانهيار أو الجلطة، ويكتشف أن هناك من يتربص به ليقتنص منه أحلامه وآماله في بحبوحة عابرة أوشكت أن تقدمها له المنتجات الوفيرة والمتنوعة من خيرات سورية، الغنية بزراعتها ومحاصيلها الهامة والإستراتيجية.

كثير من المواطنين، في موسم الصيف هذا لم يذوقوا بعد طعم الكرز أو المشمش أو الدراق، من خير السنة والرزق الجديد، ولا حتى المشمش الهندي مع أن موسمها قارب على الانتهاء، ولا حتى البطيخ رغم انتشار أكوامه على مفارق الطرق بشكل كبير وغزير، إلا أن سعر الكيلو غرام منه لم ينزل عن 9 ليرات سورية، فيكون رأس البطيخ الذي من المتوقع أن يحوي على قليل من الحلاوة واللون الأحمر، لا يقل عن 150 ل.س، بينما الرأس الأصغر والأقل تكلفة من ذلك، فإنك ستضع احتمالاً كبيراً أنه لم ينضج بعد، وأنك سترمي به في الحاوية فور تقطيعه.

الكرز الذي يعتبر كرزاً حقيقياً، في الكثير من الأسواق والمحلات لم ينزل سعره عن 125 ل.س، والمشمش البلدي عن 90 ل.س، والعجمي 110 ل.س، والدراق بـ80 ل.س، وحتى الخضار وأهمها البندورة لم يرحم سعيرها، وقد ارتفعت حتى بلغ سعر الكغ الواحد 40 ل.س، أما الثوم البلدي فحدث ولا حرج، إذا أردت نوعية جيدة تصلح لأن تكون مؤونة سنوية لأيام الشدة، فإنك لن تحصل على الكيلوغرام بسعر أقل من 140 ل.س.

من المسؤول عن هذا الجحيم المستعر؟! من الذي يسعى لتصعيب الحياة المعيشية اليومية للمواطن؟ بعض المواطنين لم يعرفوا مصدر الأزمة من أين، ولكنهم يعرفون أن من حقهم أن يتمتعوا بخيرات سورية الغنية، وضمن إمكاناتهم ودخلهم المحدود، وبعضهم يعزوها إلى سياسة النصب والجشع والطمع بالأرباح الفاحشة للتجار، وتغاضي الدولة عن مراقبة الأسعار ومحاربة الاحتكار، بل والمشاركة أحياناً في رسم السياسة السعرية المتوحشة، سياسة التحكم ورفع سعر المادة المطلوبة بشدة.

من أجل الوقوف على حقيقة المفاصل التي تتحكم بتحديد أسعار المواد الاستهلاكية اليومية للمواطن توجهت «قاسيون» إلى بعض أصحاب البقاليات في مناطق مختلفة من أسواق دمشق، وكان معظمها يعرض بشكل واضح أسعار المواد الاستهلاكية دون مواربة أو خوف من المساءلة، مع أنها أسعار خيالية وقد أجمع العديد منهم على تقديم المبرر نفسه، حيث وصلنا إلى النتيجة التالية.. 

حقائق من الواقع

مختصراً كل المبررات والأسباب، قال لنا أحد أصحاب المحلات إنه يبيع كيلوغرام الكرز الطلياني بـ100 ل.س يزيد أو ينقص 5 ليرات سورية إرضاءً للزبون، لأن سعر الجملة في سوق الهال للكيلو غرام بين 80 ـ 90 ل.س، أما المشمش البلدي فسعره بالمفرق يصل إلى 70 ل.س لأن سعر الجملة بالقبان من 40 ـ 60 ل.س، والمشمش العجمي جملته من 90 ـ 100 ل.س، ولن يباع بأقل من 110 ل.س. بينما الدراق المخملي وضِعت عليه تسعيرة 80 ل.س، وهناك نوع آخر تسعيرته 50 ل.س للكغ، وكان مبرر ذلك أن سعرهما في سوق الهال يتفاوت من 35 ـ 70 ل.س.

البندورة البلدية الصيفية التي تشتهر بإنتاجها سورية على نطاق واسع، التي منها البندورة الحورانية والساحلية، والتي يجب ان تشارك بشكل دائم في مائدة المواطن السوري، ارتفع سعرها فجأة إلى 40 ل.س مع أن سعرها المنطقي والمنصف لمثل هذه الأيام من السنة هو من 10 ـ 15 ل.س ولكن نجد أن سعر الجملة في القبان بسوق الهال وصل إلى /30/ ل.س.

للثوم البلدي والكسواني حكاية أخرى مع الغلاء، فقد وصل سعر القبان إلى 110 ل.س، ويباع بالمفرق للمؤونة الشتوية من 140 ـ 150 ل.س..... هذا صعب على احتمال المواطن ذي الدخل المحدود.

في مكان آخر... تحت جسر الثورة، وعلى مدخل السوق العتيق، وفي بداية منطقة المناخلية، رأينا أمراً مختلفاً تماماً، وكانت الفواكه الصيفية المختلفة والأصناف الجيدة، تنتشر على الأرصفة وفي السلال وعلى بسطات مؤقتة، وكانت الأنواع الجيدة من المشمش والكرز والدراق تسحر العيون بجودتها وجمال أصنافها، ولكنها كانت تباع بأقل من نصف سعرها الذي عرفناه، وعند السؤال عن هذه المفارقة العجيبة لدى أحد الباعة تبين أن هؤلاء الباعة هم المزارعون الذين يجنون هذه الثمار من بساتينهم، ويعرضونها للبيع للمستهلك مباشرة، على أمل الحصول على أرباح قليلة تزيد عن السعر الذي يحصلون عليه عند تسويق منتجاتهم لتجار الجملة في سوق الهال، وكان سعر الكيلو غرام لا يتجاوز 50 ل.س للكرز الطلياني والمشمش البلدي والعجمي. وهنا وجدنا ضالتنا في معرفة مصدر الغلاء، فالكرز الذي يبيعه تاجر الجملة بـ80 ـ 90 ل.س يكون قد حصل عليه من الفلاح بـ35 ـ 40 ل.س، والمشمش البلدي والعجمي الذي سعر جملته بين 80 ـ 100 ل.س يبيعه الفلاح للتاجر بسعر يتراوح بين 40 ـ 50 ل.س.

أما البندورة فلا يحصل الفلاح على سعر لمحصول يزيد عن 10 ل.س، في حين يباع جملة في سوق الهال بما يزيد عن 30 ل.س، ويصل للمستهلك بـ40 ل.س. ومؤونة الثوم لو حاولت الحصول عليها من الفلاح مباشرة لحصلت على سعر لا يزيد عن 60 ل.س للكغ الواحد، ومع كل الشكر والممنونية في حين أنك لن تحصل عليه من التاجر بأقل من 110 ل.س.

هنا إذاً، في سوق الهال، يتم التحكم بالسعر، وجني الأرباح الخيالية، التي قد تصل في أحيان كثيرة إلى 200%، بين السعر المدفوع للفلاح والسعر المطروح في السوق، وتكديسها في جيوب حفنة قليلة من التجار، على حساب لقمة عيش الشرائح الواسعة من المواطنين السوريين محدودي الدخل، والذين بلغت نسبة الفقر فيهم مبلغاً خطيراً، يهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي. 

احتكار واستغلال

هناك وجه آخر للاستغلال والاحتكار والتحكم، وهو عملية الضمان التي يمارسها التجار والمصدرون، حيث «يستولي» أحدهم على نوع من المنتوج ويتضمنه من أصحاب البساتين بأسعار بخسة، أو فإن الفلاح صاحب هذا المنتوج لن يستطيع تسويق منتوجه في السوق الداخلية، ولا حتى في سوق الهال، لأن تجار الجملة والمصدرين أيضاً تربطهم مصالح مشتركة، ويمررون صفقاتهم بالتعاون فيما بينهم وبالضغط على الفلاح، والتحكم والاحتكار للمادة المنتَجَة فيصدرون قسماً منها بأرباح خيالية ويحرمون المواطن السوري منها تحت أنظار الحكومة وتجاهلها لعمليات الاحتكار، بل ودعمها لممارسات التجار باختراع قوانين تحرير التجارة التي تحميهم وتزيد من طمعهم وجشعهم «بالقانون».

إذاً: منتجاتنا التي نحن أَولى بالاستفادة منها والتمتع بها، نُحرَم منها إما بالتصدير أو برفع سعر ما يتبقى منها في أسواقنا الداخلية، حتى ليكاد يشق علينا أن نتذوقها في موسم كامل.

لماذا تغض الحكومة الطرف عن ارتفاع الأسعار؟ ولا تحاول إيجاد الآليات والقوانين الناظمة لعملية التسعير العادلة؟! لماذا تشجع التجار والمصدرين على التحكم بالأسعار دون ناظم أو رادع؟! أم أنهم هم الذين يسنون قوانيننا الاقتصادية والتسويقية؟!

أسئلة ينتظر الإجابة عنها ملايين المواطنين السوريين، الذين يحملون هم المعيشة والغذاء اليومي، لعلَّهم يجدون من يخفف عنهم الأعباء ويحقق لهم أمنهم وكرامتهم.