العنف الأسري.. أسباب كثيرة وآثار خطيرة
ما تزال الأسرة السورية المدينية والريفية تحتفظ بالقليل المتناقص من خواص بنيتها الاجتماعية والأخلاقية التاريخية، التي تحاول عبثاً أن تنأى بها عن المفاهيم والعلاقات المشوهة التي يصنعها زمن العولمة ورجاله في محاولة خلق عالم هش ودون حواجز يحقق مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فالوالدان في مجتمعنا ليسا والدين بيولوجيين فقط بل مسؤوليتهما أكبر وأوسع، والأبناء مازالوا يخضعون للعديد من القيم والعادات المتوارثة. إلا أن هذه الأسرة، وقد طالها الكثير من الوافد المتنوع، وأرهقها التراجع الهائل لمستواها المعيشي، باتت تحتاج إلى مساعدة حقيقية شاملة لإعادة صياغة مفاهيمها وترتيب بنيتها، نتيجة قصورها عن مواجهة عالم تتفشّى فيه النزعة الفردية، والأنانية، والنظرة الاستهلاكية، والذي انعكس على شكل تخبط مستمر بين أفرادها ومشكلات مستحدثة باستمرار..
ويعد العنف الأسري سواءً الجسدي أو اللفظي، من المظاهر الآخذة بالتزايد في الأسر السورية، وهو ظاهرة خطيرة تنخر أسس وعمادات الأسرة، ويجعلها ضعيفة مفككة، ومتصدعة هشة.
ارتبط العنف الأسري تاريخياً بدور ومركز الأب، فهو رب الأسرة ومعيلها، وصاحب الجسد الأقوى، والذي كثيراً ما يمارس على زوجته وأولاده أنماطاً مختلفة من مظاهر العنف، الشائع منها بشدة هو العنف الجسدي كالصفع والرفس، كما أن هناك شكلاً آخر من العنف غالباً ما يكون أشد تأثيراً في البنية النفسية وهو العنف اللفظي المتمثل بالسب والشتم والتقريع... ناهيك عن وجود نوع ثالث من العنف، هو العنف الجنسي الذي قد يمارسه بعض الأزواج على زوجاتهم.
كما يرتبط العنف بمكانة الولد الذكر في الأسرة، حيث يمارس عنفاً جسدياً ولفظياً على أخواته الإناث، انطلاقاً من أنه الوريث الشرعي لسلطة والده. وكنتيجة لذلك، نجد أحياناً الزوجة الأم، المعنفة من زوجها في الحاضر، أو من والدها وأخيها في الماضي، قد تسلل العنف بصورتيه إلى سلوكها، فتمارسه على أولادها.
وفي نطاق البحث عن أسباب هذه الظاهرة، تطرح مجموعة من الأسباب الموضوعية، منها التاريخية المتعلقة بمخلفات اجتماعية موروثة، والتي تحكم وتتحكم بالأسرة العربية، وأسباب معاصرة مرتبطة بظروف فرضها الواقع في العصر الحديث. فتحديد مسؤولية كل من الزوج والزوجة في عرف الأسرة الموروث، ألقى على عاتق الزوجة النصيب الأكبر من تربية الأولاد وتعليمهم، ومسؤولية تأمين الخدمات الكاملة لهم ولأبيهم، من طبخ وتنظيف ورعاية صحية.. إلخ، أما الزوج فهو على الأغلب، المسؤول عن تأمين الدخل من خلال عمله خارج المنزل، وحماية الأسرة، وبالتالي فإن إهمال الزوجة لإحدى مسؤولياتها، يستدعي عنف زوجها.
ولكن التطورات المدنية الحديثة أحدثت تغييراً انعطافياً، فقد أصبح للمرأة دور متعدد الوظائف أرهقها، حيث أنها باتت أماً وزوجة وامرأة عاملة في آن واحد، مع بقاء ترتيب هرم الأسرة الاجتماعي الذي يضع الرجل على رأس الهرم، على حاله، وهو ما يتطلب إعادة قولبة مجموعة العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة، وإرساء روابط جديدة تهدف لإيجاد التوازن بين الوالدين، وتلغي التفرقة بين الولد الذكر وأخته الأنثى، في محاولة لتقليص أسباب العنف التاريخية، والتي تبدو سهلة العلاج نسبياً مقارنة بالأسباب المعاصرة، فالأسرة المدنية الحديثة بدأت تحت ضغط الواقع، تمحو ذلك الفارق بين الذكر والأنثى، المبني على مبدأ القوة الجسدية والسلطة الذكرية، في حين أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يحكمها المجتمع والقوانين الرأسمالية، تحاول على الدوام خلق رجل مشرقي، انفعالي، متخبط، ضائع، يصارع الفقر والجهل، معنف من ظروفه الاقتصادية والسياسية السيئة، فينفس عن سخطه وغضبه وتهميشه بممارسة العنف على أسرته، وعلى من حوله، وعلى نفسه أيضاً!..
يترك العنف الأسري آثاراً جسدية قد لا تستطيع أدوية ومباضع الأطباء علاجها، كما يخلف نفسيات منهارة قد لا يستطيع الزمن إعادة بنائها، ويولد الكره والحقد والجفاء العاطفي ويزعزع كيان الأسرة، وغالباً ما يدمرها. وبما أن الأسرة المتزنة المكونة من أفراد صحيحين نفسياً هي من أهم أولويات المجتمع المتماسك، لذلك فإن مهمة إيجاد منهجية فعالة تساعد الأسرة على مواجهة مفرزات العصر الحديث، ورعاية شؤون وقضايا ومشكلات الأسرة، وتوسيع مدارك ووعي الأفراد للواقع المُعاش، وللمفاهيم الأسرية الموروثة والمكتسبة، الإيجابي منها والسلبي.. أمر بغاية الأهمية، وهو أولاً مسؤولية الحكومة.
إن تفاقم العنف الأسري ظاهرة خطيرة، تفرض جملة إجراءات قانونية واقتصادية - اجتماعية للحد منها، يأتي في مقدمتها ضرورة رفع دخل الأسرة وتحسين المستوى المعيشي لأفرادها، عبر تلبية الحاجات المتزايدة لتطورهم، والتي تكتسب صفة الأساسية، نتيجة للتطور العلمي والاستهلاكي، والأخذ بعين الاعتبار مشاركة المرأة في المجال الاقتصادي ومراعاة دورها الثنائي، المتطلب إنشاء دور للحضانة داخل المؤسسات والقطاعات التي تعمل فيها، وتسهيل أمور المواصلات والنقل بما يسمح للمرأة الزوجة بتنظيم وقتها وتقسيمه بالشكل المناسب بين أسرتها وعملها. ومن الزاوية الاجتماعية فإن تسليط الضوء على ظاهرة العنف الأسري بأشكالها وأبعادها وأخطارها، يستوجب مشاركة المؤسسات الحكومية ذات الكوادر المؤهلة والمدربة في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، في التوعية لدور الأسرة وصياغة مفاهيمها وعلاقاتها الرابطة، بحيث يصبح الأفراد قادرين على مواجهة صعوبات الواقع ومتغيراته بالأفكار لا بالغرائز.
أما من الناحية القانونية، فيجب التشدد في تطبيق العقوبات الرادعة بحق الفرد المرتكِب لفعل العنف، واستصدار عقوبات جديدة أكثر إنصافاً للمعنَّفين.
الأسرة أولاً، سلاح ناجع لصمود مجتمع يتعرض لهجمات تشنها مخلفات الماضي وتهويمات الحاضر المرتبطة بالمؤسسات الإمبريالية.