جرائم الشرف بين القانون والقيم الاجتماعية
تُرتَكَبُ عشرات الجرائم كل يوم، إلا أن لبعضها دلالات خاصة تتعلق بقيم المجتمع، وكيفية فهم المشرِّع والقضاء لهذه القيم. ومن هذه الجرائم، تلك التي لا يزال القانون السوري رغم مرسوم إلغاء العذر المحلّ، يصفها بـ«جرائم الشرف»، مع كل ما فيها من تخلُّفٍ وهمجية. ولكن كيف يمكن أن نحافظ على وصف الدافع لارتكابها بأنه دافعٌ «شريف» عندما يستغل مرتكبوها القاصرين، لكي ينجوا من العقوبة، لعلمهم بأن القانون يخفف العقوبة عن القاصرين، ويضعهم في إصلاحية الأحداث لفترة وجيزة، ثم يطلق سراحهم ليواصلوا حياتهم في كنف آباء قتلة ومجتمع يحتضنهم ويشد على أيديهم، وكأن شيئاً لم يكن؟
إذ يقوم الكثير من الآباء بـ«غسل العار» الذي قد تلحقه إحدى بناتهن بالأسرة، من خلال تحريض أطفالهم القصَّر على ارتكاب الجريمة، لتجنب العقوبة التي قد يتعرضون لها. يقومون بهذا الفعل المشين الخالي من كل معاني الإنسانية بدون أي إحساس بالذنب، والمضحك المبكي في الأمر أنهم يقومون به بـ«دافع شريف» على حد تعبير القانون والقضاء في سورية. وبعد ارتكاب الجريمة من القاصر يخرج الأب مزهواً بابنه الذي أصبح «رجلاً»، و«غسل عار» العائلة. فكيف يعالج القضاء هذه المسألة؟
كانت الحادثة التي نشرتها جريدة الثورة في صفحة الحوادث في عددها الصادر بتاريخ 23/3/2010 نموذجاً صارخاً على هذا النوع من الجرائم، والمفجع في الأمر أن الأب جُرِّم بجناية التدخل بالقتل القصد «بدافعٍ شريف» في هذه الحادثة، وعوقب بالاعتقال لمدة سنة ونصف فقط، لأن فعله بقي في حيز التدخل، أما القاصر فهو يحاكم أمام محكمة جنايات الأحداث بجناية القتل قصداً «بدافع شريف».
ونقول إنه أمرٌ مفجع، لأن معاقبة أبٍ على هذا القدر من القسوة والخطورة الإجرامية، بالاعتقال عاماً ونصف يعدُّ مكافأة لا عقوبة، ذلك أن واقع الحال يظهر أنه هو القاتل الفعلي، وهو فضلاً عن القتل، دمَّرَ إنسانية ومستقبل ابنه، وزجَّه في عالم الإجرام، بدافع يصفه القانون السوري حتى اللحظة بأنه دافع شريف. أيُّ دافع شريف هذا الذي يجعل أباً يحتمي بقاصر كي لا يرتكب بنفسه الجريمة التي تفتقر أصلاً إلى أي دافع شريف، فينجو من العقوبة، ويبقى «مرفوع الرأس» وفق عرفٍ اجتماعيٍ بالٍ يعترف به القانون ويحميه حتى اليوم.
أما في التحليل القانوني فإن توصيف فعلة الأب على أنها تدخل في جناية القتل القصد، يعني أن القضاء اعتبر أن فكرة الجريمة كانت موجودةً في ذهن القاصر أصلاً، واقتصر دور الأب على المساعدة وإعطاء الإرشادات لارتكاب الجريمة. ولكن الواضح من مجريات القضية، أن الأب هو الذي حملَ ولده على ارتكاب الجريمة. وبالتالي فإن التوصيف الصحيح لدور الأب في الجريمة هو التحريض على جناية القتل القصد، وعليه فإنه يجب أن يعاقب بعقوبة الجريمة نفسها التي حرََّض عليها، كما لو أنه ارتكبها بنفسه وفق المادة 217 من قانون العقوبات السوري ونصها «يتعرض المحرِّض لعقوبة الجريمة التي أراد أن تُقتَرَف سواء كانت الجريمة ناجزةً أو مشروعاً فيها أو ناقصة». ولنا أن نسأل هنا، ترى هل «الدافع الشريف» نفسه هو الذي حدا بالقضاء إلى التخفيف عن هذا المجرم واعتباره متدخلاً فقط؟ وأين كان صوت النيابة العامة، وهي الممثل الوحيد أمام القضاء لدم الضحية المهدور؟ والأهم، ترى هل كانت القضية ستأخذ المنحى نفسه لو أن هناك مؤسسات أهلية تعنى بقضايا كهذه؟
لا بد أن تنتهي محاباة مرتكبي هذه الجرائم، التي أصبحت ظاهرةً متفشيةً في المجتمع السوري، إذا ما أردنا بناء مجتمع سليم. ولا بد أن تعمل السلطتان التشريعية والقضائية، ومعهما كل القوى الحية في المجتمع السوري على قمع الأعراف والعادات المتخلفة بشكل جديّ، وإغلاق المنافذ القانونية على مرتكبي هذه الجرائم. وإلا فإن المجتمع سيبقى أسير قيم القرون الوسطى، وستبقى سيادة القانون منقوصةً، وسيبقى دوره كرافعةٍ للقيم الاجتماعية بعيداً عن التطبيق الفعلي على أرض الواقع.