حرارة أسعار رمضان تفوق موجة الحر الصيفية.. تحكم واستغلال وجشع تطغى على أسواقنا المحلية
عرفنا شهر رمضان في طفولتنا مناسبة خاصة للمودة والتراحم، شهراً للخير والبركة والتضامن والتكافل الاجتماعي، ينتظره الناس جميعاً من عام لآخر لما كان يحمله معه من الهدوء والسكينة والأمن والطمأنينة وراحة النفس والبال، فقد كانت روح الإيثار تنتشر فيه بصفة خاصة، ويحصل كل ذي حاجة على حاجته، مهما بلغت من الصعوبة في غير أيام رمضان.
منذ سنوات طويلة انقلبت هذه المشاعر وتلاشت، وحل محلها الهم والغم، والشعور بقدوم المأساة كلما اقتربت أيام رمضان نظراً لصعوبة المعيشة وتعاظم الأعباء والهموم وازدياد المصاريف والتكاليف التي لم يعد أحد قادراً على احتمالها في أيام رمضان. فالتجار الكبار يرون فيه مناسبة هامة لتحقيق الأرباح السريعة الفاحشة، وهم لا ينتظرون رؤية هلاله بل يبدؤون بالتحكم بالسوق قبله بأسبوع أو أسبوعين، ويرفعون الأسعار ويحتكرون بعض المواد الهامة لمائدة رمضان، لأنهم يعلمون أن الأسرة السورية يتضاعف إنفاقها في هذا الشهر، وتُحضِّر على المائدة أصنافاً متعددة من الطعام والشراب لا نراها في الأشهر الأخرى.
موسم للجشع
في هذا العام كما في كل عام سبقه بدأت الأسعار بالارتفاع قبيل رمضان بأكثر من عشرة أيام، بداية من عند التجار الكبار في سوق الهال وحيتان المال، ونهاية بالبقاليات والأسواق الشعبية ومختلف منافذ البيع.
وفي جولات متكررة على بعض أسواق دمشق والمحال الرئيسية الكبيرة لبيع الخضار والفواكه، وجدنا عند الأيام الأولى من شهر آب أن معظم أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية قد سجلت ارتفاعات مستمرة خاصة المواد الأساسية الموسمية، كالخضار الصيفية والبقوليات، وقد وصلت نسبة ارتفاع الأسعار عند بعضها إلى 25% عن أسعارها قبل أسبوع، فكيلوغرام البندورة يباع في معظم أسواق دمشق بـ25 ل.س، وهي قابلة للزيادة خلال الأيام القليلة القادمة، علماً أنه كان يباع بـ15 ل.س، بينما كان في مثل هذه الأيام من العام الماضي بـ10 ل.س أو أقل.
وكذلك الأمر بالنسبة للبطاطا التي هي طعام الفقراء، فقد وصل الكيلوغرام منها إلى 35 ل.س، مع أنها كانت قبل أيام بـ20 ـ 25 ل.س وكذلك الخيار والفاصولياء والكوسا قد سجلت ارتفاعات في الأسعار تراوحت بين 10 ـ 15 ل.س للكيلوغرام الواحد. ولم يقتصر الأمر على الخضار، ولن نتكلم عن الفواكه التي حُرِم المواطن السوري من العديد من أصنافها لهذا العام نظراً لأسعارها الخيالية، بل طالت ارتفاعات الأسعار أنواع البقوليات وخاصة العدس بأنواعه الذي لا تخلو منه السفرة الرمضانية طيلة الشهر، وكذلك ارتفعت أسعار اللحوم البيضاء والحمراء، فقد سجلت لحوم الفروج بمختلف أشكالها زيادة وصلت إلى 35% حيث يباع كيلو الفروج الحي بـ125 ل.س بعد أن كان قد استقر خلال الأشهر القليلة السابقة وحتى قبل أسبوعين بـ95 ل.س، وسجل الكيلوغرام من لحم العجل زيادة طفيفة لم تتجاوز الـ10% حيث يباع اليوم بـ500 ل.س بعد أن كان بين 425 ـ 450 ل.س.
وكانت الضربة الكبرى التي حظيت بها أسعار لحم العواس (لحم الضأن) حيث قفز الكيلو غرام من 650 إلى 850 ـ 900 ل.س. أما البطيخ، وهو المادة الأكثر إنتاجاً والأكثر استهلاكاً خلال فصل الصيف، فلم ينزل سعره في هذا الموسم عن 8 ل.س رغم العرض الكبير الموجود في السوق، إلا أن التجار الكبار قد اتفقوا على عدم إنزال السعر عن هذا الحد، علماً أنه في مثل هذه الأيام من العام الماضي بيع بـ4 ـ 5 ل.س في حده الأعلى.
وقد سجلت أسعار الرز والسكر زيادة غير معقولة وارتفع كيلو السكر من 33 ل.س إلى 45 ل.س، والرز بمختلف أنواعه كان بين 55 ـ 80 ل.س، فقفز إلى 70 ـ 90 ل.س.
مسؤولية من؟
من المسؤول عن هذا السعير المحترمر؟! ومن الذي يحاول تضييق الخناق وتحميل المواطن السوري الأعباء الإضافية وهموم الحياة المعيشية باستغلال المناسبة التي تفرض على مائدة المواطن شكلاً خاصاً من التعامل والترتيب؟ للوقوف على حقيقة ذلك كان لنا الكثير من اللقاءات مع المواطنين الذين عبروا عن وقوعهم بين نارين: نار الأسعار المرتفعة ونار الحاجة لتلك السلع والأصناف الغذائية في شهر رمضان، في ظل الإمكانيات المادية المحدودة والراتب الذي لا يكاد يصل إلى البيت في اليوم الأول من الشهر، ولم يعد بمقدور الكثيرين من مواطنينا الحصول على ما يرغبون، ولسان حالهم يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة».
المواطن أبو حسن يقول: «بدأت الأسعار تقفز منذ عشرة أيام وما عدنا نعرف من الذي يرفعها عند كل مناسبة فرح ينتظرها المواطن، فيدمرون بذلك أفراحنا ويسرقون أحلامنا وأمنياتنا، ويتذرع تجار المفرق أن ارتفاع الأسعار يبدأ في سوق الهال، فمن الذي يسمح بتلاعب التجار الكبار بأسعار لقمة عيشنا؟ وحتى الخضار والفواكة التي هي الآن بموسمها حُرِمنا من تذوقها نظراً لغلاء سعرها غير المعقول وقصر ذات يدنا»
المواطن أحمد الأسعد قال: «ليس فقط التجار الكبار الذين يحتكرون الخضار والفواكه بسوق الهال، بل أيضاً تجار الألبسة وخاصة ملابس الأطفال وليست أسعارها أفضل حالاً من أسعار الأكل والشرب، والتجار الكبار ينتظرون فرح أطفالنا بثوب العيد فينتهزون الفرصة لعرض اسوأ بضائعهم لاصطياد أكبر كمية من الأرباح الفاحشة، فهم يعرفون أن الأسرة السورية أكثر ما تهتم في رمضان والعيد القادم بعده بألبسة العيد للأطفال، ويعلمون أننا لن نكسر خاطرهم من أجل أي شيء مهما كان غالياً».
المواطن حسام الشاطر قال: «والله ما عدنا شبعنا اللقمة لا في رمضان ولا في غيره من الأشهر الأخرى، فهناك فجوة كبيرة وفارق لا يمكن تسديده بين دخلنا والمصروف الضروري للأسرة بشكل عام، فالأسعار بشكل عام في بلدنا مرتفعة والراتب لا يكفينا مصروف أكل وشرب عشرة أيام من الشهر، فما بالك مع ارتفاع الأسعار والاحتكار الخاص برمضان؟! لقد تعودنا أن تهبط أسعار الخضار والفواكه الصيفية في مثل هذه الفترة من السنة، لأنه موسم إنتاجها الوفير، فما الذي حدث كي تبقى الأسعار عند مستويات غير مسبوقة قياساً للسنوات السابقة؟! هل يعقل أن نشتري كيلو البندورة في عز الموسم بـ25 ل.س؟ والبطاطا 35 ل.س وحتى كيلو الكوسا لم ينزل عن 35 ل.س واللوبياء بـ100 ل.س؟ نحن أمام حالة شاذة لم يشهدها إنسان في كل دول العالم.»
الأستاذ أكرم .ع قال: «يتذرع التجار الكبار الذين يتحكمون بتجارة المواد الغذائية أن أسعار المواد الأساسية مثل السكر والرز والزيوت والسمن وغيرها من المواد المستوردة، مرتبطة بالسوق العالمية، فإذا كان هذا صحيحاً فلماذا لا يعمد هؤلاء إلى تخفيض الأسعار عندما تهبط في البورصة العالمية؟! كل هذه حجج واهية، وإن تحرير الأسعار وإطلاق يد التجار دون رقابة أو تدخل من الدولة كان لمصلحة التجار حصراًَ على حساب لقمة عيش الناس».
أين الرقابة؟
المواطن قاسم العريضي قال: «كل هذا الغلاء كان بسبب التحكم والاحتكار وجشع وطمع أصحاب النفوس المريضة من التجار الكبار الذين يستغلون المناسبات لتحقيق أكبر قدر من الأرباح الفاحشة، وإننا كمواطنين نطالب الحكومة بحمايتنا منهم، ونطالبها بتفعيل دور الرقابة التموينية على الأسواق ومراقبة الأسعار وضبطها وتحديدها، وخاصة محلات بيع المواد الغذائية، بدءاً من مستودعات تجار الجملة والمستوردين، ونطالب بتشديد الرقابة على المواد الفاسدة من لحوم ومواد غذائية متنوعة، ومحاسبة المخالفين بصرامة، وذكر أسمائهم والتشهير بهم في وسائل الإعلام، لفضح تلاعبهم وردعهم، إن كان قد تبقى لديهم أثر لضمير أو كرامة».
مواطن آخر قال: «نعم هذا صحيح يجب اتخاذ الإجراءات الملزمة ووضع الآليات الفعالة لضبط الأسواق والأسعار ليس فقط في رمضان بل على مدار السنة، لأن الأسعار لا ترتفع فقط في رمضان، بل في أغلب أيام السنة، وخاصة عن شح المواد وازدياد الطلب على سلع معينة، حيث يسارع التجار الكبار إلى احتكارها والتحكم في أسعارها جشعاً وطمعاً، وهذا حقيقة ما نشهده في أسواقنا، ليس إلا عمليات احتكار للمواد الأساسية والتحكم بعرضها بأسعار عالية حتى في عز موسمها لتحقيق أكبر قدر من الأرباح الفاحشة، ويضيقون الخناق على المواطنين في الوقت الذي أصبحت فيه كل مقومات الحياة صعبة وكبيرة الأعباء».
أحد بائعي المفرق شرح لنا جانباً من الأزمة ومَن المستفيد منها فقال: «إن مستوردي المواد الأساسية مثل السكر والرز هم الذين يتحكمون بالسعر، وهم مثل المنشار (عالطلعة بياكلوا وعالنزلة بياكلوا) فإذا فُرِضت عليهم ضرائب جديدة يُحصِّلونها من ظهر المواطن، وعند إعفائهم من شيء يغفلون عنه ويحتفظون بالفائدة لأنفسهم فقط، فقد أصدرت وزارة الاقتصاد والتجارة قرارين مهمين لضبط أسعار المواد الغذائية المستوردة أولهما إلزام المنتجين والمستوردين لأهم المواد الأساسية كالرز والسكر والزيوت والسمنة وغيرها بتقديم بيانات بكلف الإنتاج وبوليصة الاستيراد والتكاليف المترتبة لوضع السعر المناسب، ولكن هذا الأمر يتم التغاضي عنه بالرشوة والتواطؤ وغض النظر، والقرار الثاني إلغاء عمولة مؤسسة التجارة الخارجية على استيراد السكر والرز، ومع ذلك لم تنخفض أسعار هاتين المادتين الهامتين، بل وصل كيلو السكر إلى 45 ل.س، وبعض أنواع الرز العادي إلى 90 ل.س، وقد استفاد التجار الكبار من إلغاء عمولة مؤسسة التجارة الخارجية ليضيفوها إلى أرباحهم، ولم تنعكس إيجاباً على خفض أسعارها في السوق الداخلية. من هنا نرى أن تحرير الأسعار وعدم ضبط السوق كان لمصلحة التجار حصراً، وتشعر أن بينهم اتفاقاً على صيانة مصالحهم المشتركة لتقاسم مغانم السوق، فكل فئة من التجار يحتكرون سلعة أو أكثر ويتحكمون بعرضها في السوق بحيث لا يقل سعر الكيلو عن الحد الأدنى المتفق عليه فيما بينهم».
هذه هي حال مواطننا وهذه هي حال أسواقنا التي يتحكم بها التجار الكبار بعيداً عن الرقابة وتدخل الدولة، شريعة الغاب الظالمة تحكم لقمة عيشنا «القوي يأكل الضعيف» والتاجر الكبير يتحكم بموادنا الغذائية والاستهلاكية الأساسية، والجهات الرقابية تقف موقف المتفرج، بل وتطلق يد التجار الكبار وتشجعهم على ممارساتهم الاحتكارية.
من يدافع عن الناس؟
من هنا نطلق صرخة رفض وتساؤل: أين دور المنظمات الشعبية التي أخذت على عاتقها الدفاع عن لقمة الناس والمطالبة بتحسين معيشتهم؟!! أين دور جمعية حماية المستهلك التي وقفت محايدة في هذا الصراع الذي يعتبر صراع وجود أو عدم وجود؟! هل اكتفت بحمل الاسم فقط والتباهي به؟!! إن بإمكانها رفع الصوت وحتى اتخاذ الإجراءات والقرارات الرادعة لطمع التجار وجشعهم لأن لها صفة السلطة التنفيذية في صلاحياتها ومهامها. إننا نهيب بكل الشرفاء في هذا الوطن أن يضطلعوا بأدوارهم ومهامهم التي أخذوها على عاتقهم لحماية المواطن من التحكم والتسلط وضمان أمنه وكرامته وتحسين مستوى معيشته.