العشوائيات كرستها الليبرالية واستفادت منها

العشوائيات كرستها الليبرالية واستفادت منها

العشوائيات لم تكن بيوم من الأيام نتيجة لمشكلة إسكان كانت مستعصية أو عصية عن الحل، كما يحلو للبعض أن يصورها أو يسوق لها، فظهور العشوائيات على أطراف بعض المدن وبداخلها كان نتيجة التمادي في غياب وتغييب دور الدولة المتعمد عن الكثير من مهامها وواجباتها، وكانت مشكلة الإسكان واحدة منها فقط، بظل التخلي الرسمي عن الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة، عبر السياسات الليبرالية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة. 

الإحصاءات الرسمية ما قبل الحرب والأزمة كانت تقول أن هناك 115 منطقة عشوائية على مستوى القطر، وأن فيها ما يعادل 40% من إجمالي الكتلة السكانية في سورية، وعلى الرغم من ذلك لم يكن السكن من أولويات التوجهات الحكومية على مدى عقود، حيث كان موضوع السكن قضية فردية وشخصية، بعيداً عن أي تخطيط حتى على مستوى معدلات الزيادة السكانية المطردة والحاجة للإسكان، رغم الكثير من القوانين التي صدرت تحت عناوين عقارية، ولكن بمجملها كانت تصب بمصلحة تكريس زيادة الطلب على حساب قلة العرض في سوق العقارات، ما أدى لتكريس ظاهرة السكن العشوائي، نظراً لقلة البدائل المنظمة أو انعدامها.

سوء التنمية والتخطيط

من الواضح بعد كل تلك السنين أن سوء التنمية والتخطيط وغياب التوازن فيهما هما أهم سبب من أسباب انتشار العشوائيات وتوسعها، حيث ارتبطت مخالفات البناء والسكن وزيادتها مع استمرار انخفاض القوة الشرائية لدى المواطنين عموماً، والذي كان ظاهراً في عدم التناسب بين معدلات الدخل وأسعار العقارات، حيث أدت المضاربات العقارية التي جرت خلال أعوام ما قبل الحرب والأزمة إلى ارتفاع في أسعارها بشكل غير مبرر داخل المدن الكبيرة والرئيسية، على الرغم من وجود الكثير من الشقق الفارغة داخل أحياء هذه المدن مثل دمشق وحلب وحمص، مع ازدياد معدلات الإفقار والتماهي في عدم عدالة توزيع الثروة في البلاد على المستوى الإقليمي وعلى المستوى الفردي، من خلال السياسات الاقتصادية الليبرالية المتبعة، التي زادت في غنى البعض على حساب إفقار الكل، وخاصة أولئك الباحثين عن فرص للعمل في بعض المدن التي تم توجيه التنمية إليها على حساب المدن والأرياف الأخرى.

تهميش واغتراب

تم تدمير الإنتاج الزراعي تباعاً عبر السياسات الليبرالية للحكومات المتعاقبة، ما أدى لعزوف الكثيرين عن العمل به اضطراراً تحت ضغط الحاجة والعوز، منضمين لغيرهم من العاطلين عن العمل الباحثين عن فرصة عمل في المدن الكبيرة، حيث يضطر الكثير من هؤلاء للقيام بأعمال هامشية ليس لها طابع الديمومة والاستمرارية، كما أصبح جزء هام منهم تحت رحمة أرباب عملهم في استغلالٍ لحاجتهم وعوزهم، وما يفرضه ذلك أحياناً من فرض القيام بأعمال ليسوا راضين عنها ولكنهم مرغمين عليها، ليتم تكريس التهميش ليس على مستوى نوعية العمل والسكن بالعشوائيات فقط، بل حتى على المستوى النفسي عند هؤلاء، لتزيد من حالة الاغتراب لديهم.

تكلفة أقل ومواصفات فنية معدومة

بالإضافة لغياب دور الدولة على مستوى التنمية والتخطيط، كان العامل الاقتصادي هو الحاسم، حيث تعتبر التكلفة أقل على مستوى إشادة الأبنية في تلك المناطق، اعتباراً من سعر الأرض الذي يمكن أن تكون ملكية للدولة، حيث يتم وضع اليد عليها من قبل بعض السماسرة والمتنفذين ممن أصبحوا مقاولين، أو أن تكون أرضاً زراعية غير داخلةٍ حيّز التنظيم وبالتالي فسعرها أدنى بكثير من الأراضي المنظمة، مروراً بعدم وجود رسوم تراخيص وبلديات وغيرها من النفقات التي تدخل ضمن حيّز حسابات التكلفة، وليس انتهاءً بكمية المواد المستهلكة في الإنشاءات، حيث يتم تقليص تلك المواد إلى أبعد حدود، كونها لا تخضع لأية رقابة أو مواصفة، بما في ذلك العوامل الصحية المطلوب توفرها في الأبنية السكنية من حيث الإضاءة والشمس والتهوية وغيرها، كما أن تدني مستوى الخدمات العامة يخفض من الأسعار أيضاً بنهاية المطاف، وخاصة عدم وجود مدارس ومشافٍ ومستوصفات وغيرها من منشآت الخدمات العامة في غالبية تلك العشوائيات.

الحرب فرصة للإثراء

ومع تعمق الأزمة والحرب الطاحنة بالبلاد، ونزوح وتشرد الملايين، والدمار الذي لحق بمئات الآلاف من الأبنية السكنية على طول البلاد وعرضها، كانت فرصة جديدة متاحة أمام الكثيرين من التجار والسماسرة والمتنفذين والفاسدين للإثراء على حساب معاناة النازحين والمشردين، حيث قاموا بدور المقاولين العقاريين داخل العشوائيات المنتشرة أصلاً هنا وهناك في العديد من المدن وعلى أطرافها، في استغلال مباشر لحاجة النازحين إلى مأوى، وبظل استمرار الغياب الرسمي للجهات الرسمية المعنية، سواء بالقيام بدورها بمجال الإسكان والإيواء، أو على مستوى مراقبة التوسع الذي استشرى أفقياً وعمودياً داخل العشوائيات، كنتيجة حتمية لزيادة معدلات الطلب على العرض في السوق العقارية النظامية وغير النظامية.

إهمال تاريخي

تاريخياً كانت العشوائيات تعاني من الإهمال وخاصة على مستوى الخدمات، حيث تعتبر البنى التحتية في هذه التجمعات البشرية متهالكة نظراً لعدم خضوعها لأي معيار هندسي أو علمي، ومع التوسع الدائم لتلك العشوائيات بات أمر وضع المعايير الهندسية والعلمية مستعصياً تماماً، فشبكات الصرف الصحي التي تم إنشاؤها ارتجالاً، لم تعد تصلح لأية عملية ترميم أو تصحيح، وغالباً ما نرى مياه المجاري والصرف الصحي تشكل بركاً ومجاري ظاهرة في تلك العشوائيات مع ما تحمله من أوبئة وأمراض وخاصة للأطفال، كذلك الحال بالنسبة لشبكات المياه والكهرباء، التي بمجملها مكشوفة، مع ما يمكن أن تتعرض له من أضرار، ناهيك عما يمكن أن تشكله من أخطار مباشرة على المواطنين وسلامتهم.

فقراء بعيداً عن التعقيدات والقيود

على هذا الأساس فقد أصبحت تلك العشوائيات مستقراً للفقراء والمعدمين والمهمشين، وأخيراً للكثير من النازحين والمشردين الذين أوصلتهم الحرب والأزمة إليها بحثاً عن مأوى، هذا الخليط المجتمعي المتجمع في مكان واحد ضيّق جعل من العشوائيات أمكنة تتكثف فيها الظواهر الاجتماعية كلها، السلبية منها والايجابية على حد سواء، ولكن ما يظهر على السطح منها هي تلك الظواهر السيئة ذات المنعكسات السلبية على كل البنى المجتمعية عملياً، والتي أصبح لها شبكات تديرها وتنتفع من وجودها ومن تغوّلها وانتشارها، ولا يغيب عنا ما ظهر مؤخراً من تشبيح وتعفيش وخطف، وغيرها من ظواهر مرتبطة بالحرب والأزمة وحالة الفلتان، بظل عدم وجود البدائل المناسبة للقاطنين فيها، وغياب دور الرقابة الرادعة، سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى المجتمعي، على الرغم من أن التواجد داخل تلك العشوائيات ساعد على أن تتكسر الحواجز المجتمعية كافة، التي كانت تعزل بعض المجتمعات عن بعضها الآخر، لتكريس نوع جديد من التواصل المجتمعي يغلب عليه الطابع العفوي والبسيط بعيداً عن تعقيدات الحياة وقيودها كلها.

حلم بمهب الريح العابرة للقارات

إن مشروع امتلاك منزل كان حلماً لدى السوريين قبل الحرب والأزمة، وقد أصبح هذا الحلم عصياً عن التحقق الآن، إن لم تحصل معجزة ما، وخاصة بظل القوانين التي صدرت والمتعلقة بالقطاع العقاري، حيث كان يغلب عليها مصلحة التجار وكبار المستثمرين على مصلحة عامة المواطنين، بل وتكرس احتكار العرض من أجل المزيد من الاستفادة من زيادة الطلب، ناهيك عما يتم طرحه من مشاريع مشبوهة بخصوص إعادة الإعمار والتي بدأت تتقاذف عناوينها شركات ومنظمات دولية، عبر مؤتمرات تعقد هنا وهناك لهذه الغاية، بعيداً عن أولى واجبات الدولة عبر مؤسساتها وشركاتها وخاصة الإنشائية منها، بأن تحمي حق السكن المصان قانوناً من براثن العابثين به داخلاً وخارجاً، ليصبح الحلم بمهب الريح العابرة للقارات على أيدي هؤلاء، ولتستمر مأساة الفقراء والمهمشين بالعيش داخل العشوائيات وكأنها قدرهم.