هيبة الوظيفة العامة.. والمقاربات الناقصة
تعد الإدارة العامة وأسلوب موظفيها في أداء عملهم المعبر الأبرز عن هيبة الدولة، كونها الحلقة التي تصل الدولة كشخص اعتباري بمواطنيها، والتي تنقل الدولة في وعي المواطنين من مفهوم مجرد، إلى فعل محسوس على أرض الواقع. ولذلك كان للإدارة العامة قوانينها الخاصة التي تنظم أساليب عملها وتحكم موظفيها وتصون هيبتهم عند التعامل مع الأفراد والمؤسسات الخاصة، ولحماية هذه الهيبة لا بد من وضع آليات دقيقة لانتقاء الموظفين على أساس الأهلية والتخصص، وبعيداً عن المحسوبيات والاعتبارات التي لا تمت للكفاءة بصلة، وكذلك آليات فعالة لمحاسبتهم، وقبل كل ذلك لا بد من ضمان مستوى معيشة لائق لهم، ووضع قوانين صارمة تحميهم أثناء أدائهم لمهماتهم.
هذا على المستوى النظري، ولكن على أرض الواقع فإن متابعة أي معاملة في الدوائر الرسمية السورية، تكفي لملاحظة حجم الفوضى والفساد في مؤسسات الدولة، ويبدأ الأمر من المعاملة السيئة للمواطنين من جانب عدد من الموظفين الرسميين، مروراً ببطء الإجراءات وتعقيدها، وانتهاء بالرشاوى والإكراميات التي يضطر صاحب المعاملة لدفعها. ويمكن القول إن الوظيفة العامة أصبحت فاقدة لاحترامها وهيبتها أمام شرائح واسعة من المواطنين في البلاد، وهو الأمر الذي يضع هيبة الدولة وسلامة أجهزتها على المحك.
غالباً ما تنتهي المعالجات النظرية لهذه الظاهرة إلى تحميل الموظفين المسؤولية عنها، وإلى اقتراحات بمحاسبتهم ومعاقبتهم على تجاوزاتهم واستهتارهم بالوظيفة العامة ودورها الحيوي. في حين جاءت محاولات المعالجة العملية التي تمت في ظل الحكومة الحالية والحكومات السابقة، مقتصرة على محاسبة بعض الموظفين الصغار هنا وهناك، أو محاولة التشدد في موضوع الالتزام بساعات الدوام الرسمي، أو الجولات المفاجئة التي غالباً ما يعلم بها الموظفون قبل موعدها بحيث تصبح فاقدة لجدواها كلياً. وأما المقاربة العميقة لهذه الظاهرة فإنها كانت ولا تزال شبه غائبة على المستويين النظري والعملي.
قبل الحديث عن محاسبة صغار الموظفين لا بد من القول إن مطالبة أي فرد بأداء واجباته كاملة في أي موقع كان، تتطلب أداء حقوقه كاملة على التوازي، لأن الواجب والحق عنصران متكاملان، فأداء الحق لصاحبه يوجب قيام الأخير بواجبه والعكس بالعكس. وهكذا فإنه في ظل الأجور المتدنية وظروف العمل السيئة، تصبح المطالبة بمحاسبة المقصرين فارغة من مضمونها، وخاصة أن الأجهزة القائمة على محاسبتهم مؤلفة بدورها من موظفين عامين، يخضعون للقوانين نفسها وشروط العمل نفسها والمناخ العام نفسه. وهكذا فإن معالجة المسألة عند صغار الموظفين معالجة غير مجدية دون شك، ولن تكون إلا معالجة انتقائية لا تفيد في محاصرة المشكلة وإنهائها.
ومن ناحية أخرى فإن المطالبة بوقف الفساد الصغير وقيام الموظفين بأداء مهامهم على أكمل وجه، في ظل استمرار صفقات الفساد الكبرى واستمرار حيتان الفساد في مواقعهم، هي فضلاً عن كونها مطالبة فارغة وغير واقعية، فإن فيها محاباة لكبار الفاسدين وتجاهلاً لجذور المشكلة الحقيقية، لأن فقدان الوظيفة العامة لهيبتها يبدأ أولاً من فساد كبار الموظفين وعدم إدارتهم الجيدة للعمل، لأنهم هم المسؤولون أولاً وأخيراً عن كيفية سير العمل في إداراتهم، وهم المسؤولون عن تأمين المناخ العام اللازم للمحافظة على قدرة الإدارة العامة على القيام بدورها الحقيقي في حياة البلاد.
يبدأ الحل إذاً بتطهير جهاز الدولة من الفاسدين الكبار، ومن ثم الاعتماد على تحويل فاقد الفساد إلى الخزينة العامة لتأمين دخول لائقة للموظفين تمكنهم من وضع جهودهم في مكانها الصحيح، وتمكن من اجتذاب الكفاءات الحقيقية للعمل في الوظيفة العامة. ومن ثم يمكن الاعتماد على الموظفين أنفسهم بعد تحصينهم من الفساد والاستهتار، في تعديل أساليب اختيار الموظفين الجدد، ومحاسبة المقصرين والفاسدين الصغار، على أن يترافق ذلك مع التعديلات التشريعية اللازمة للقوانين الإدارية.
لا شك أن تنفيذ عملية إصلاحية كهذه ليست بالأمر السهل، ولا شك أنها تتطلب قراراً سياسياً شاملاً، وجهداً مجتمعياً منظماً للحديث عن مقدماته وكيفية صناعته مقام آخر. إلا أن الاستمرار بالتركيز على نتائج المشكلة ومظاهرها السطحية، لن يقود إلا إلى المزيد من تعقيدها، والمزيد من حرف البوصلة عن وجهتها الصحيحة.