جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

الانتقام من الفلاّح!

استولى التجار والسماسرة والمضاربون خلال «فورة» العقارات المصطنعة التي تأججت خلال العامين 2008 – 2009 على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مختلف المحافظات السورية، مستغلين حاجة الفلاحين والمزارعين للسيولة المالية لتسيير شؤونهم المتعثرة بعد أن أنهكتهم وخذلتهم بالتوازي، السياسات الزراعية المتبعة من جهة، وتقلبات المناخ من جهة أخرى، ما اضطرهم للتخلي عن أجزاء كبيرة من حقولهم لمتموّلين لا تشكّل الأراضي الزراعية بالنسبة إليهم سوى فرصة كامنة قليلاً أو كثيراً لتحقيق المزيد من الإثراء.. ولعل أبرز المظاهر السريعة التي أنتجتها هذه الظاهرة هي تحول قسم متزايد من المساحات المستولى عليها لغرض المضاربة من بقاع خضراء وحقول حنّائية إلى فيافٍ جرداء رمادية، ومن يعبر الآن الكثير من الطرق الفرعية في محافظة واحدة أو بين محافظتين، يكتشف أن نسبة كبيرة من الأراضي التي انتقلت ملكيتها من يد فلاحين إلى يد مضاربين قد مرّ عليها حول أو حولان دون حرث أو بذر أو حصاد.

ومما يبعث على الأسى والقلق أن الأموال القليلة التي حصل عليها (مؤقتاً) بائعو أراضيهم، سرعان ما عادت إلى جيوب من دفعها (مؤقتاً)، إذ التهمتها نيران التضخم بصورة دراماتيكية مخطط لها بدقة، دون أن تحقق للفلاحين معظم الأغراض التي كانوا يتوهمون أنهم سيحققونها، وهكذا اكتشف من تخلى عن أرضه بعد فوات الأوان أن خسارته باتت مضاعفة، فقد ضاعت الأرض الموروثة عن الأجداد بالتخلي القسري عن ملكيتها، وذهبت معظم أموال بيعها هباء في حمأة الغلاء المتصاعد.. (ألا يذكّرنا ذلك بخطة كارثية مارسها آخرون محترفون في الماضي القريب).

مرّ زمان كان الفلاح فيه يتعرّض لشتّى أنواع الظلم والاضطهاد والعدوان.. فمن جهة كانت سياط الإقطاعيين تجلده ليل نهار، وتقاسمه ثلاثة أرباع لقمته وأرضه، ومن جهة أخرى كان عرضة دائمة للقسر والقهر الاجتماعي سواء من فرسان ورعاة البادية عبر الغزو والنهب واعتداء الماشية على زرعه، أو من شرائح متشوفة ومتسلطة من سكان المدن عبر التعالي عليه والاستهزاء منه وشراء منتجه بأبخس الأثمان، ثم جاء الإصلاح الزراعي بعد نضال فلاحي مرير ليعيد له بعض حقوقه وينصفه ولو جزئياً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، فانتعش الفلاح وانتعشت الزراعة نسبياً، وانعكس ذلك خيراً عميماً على المجتمع عموماً.. وحسب الفلاح أن ليالي اضطهاده قد زالت إلى غير رجعة.

لكن الرياح السوداء أبت إلا أن تهب مجدداً بعد وصول الأفكار النيوليبرالية إلى عقر دار القرار الاقتصادي، فتخلت الحكومة رسمياً عن دورها الرعائي الذي كان يتآكل ببطء طوال عقود، وها نحن اليوم نشهد انقلاباً حقيقياًً بتسارع كبير وباطراد مريب على قيم الإصلاح الزراعي ونتائجه تخطيطياً وإجرائياً وتشريعياً، وبالتالي لم يبق أمام الفلاحين إلا أن يهبوا مجدداً للدفاع عن مصالحهم التي يجاهر أعداؤهم الطبقيون التاريخيون بنيّتهم في تجريدهم إياها بعد أن أمسكوا مجدداً أو كادوا، بزمام المرحلة..

إن محاولات «الانتقام» من الفلاح السوري تجري اليوم على قدم وساق، وقد بدأت بصورتها المعاصرة جداً برفع الدعم عن الزراعة من خلال رفع تكاليف الإنتاج الزراعي من طاقة وأسمدة ومبيدات ومعدّات والتي لم يقابلها رفع سعر المنتج في الحقل، ثم خطت خطوة مفصلية بفتح الأسواق المحلية أمام المنتجات الزراعية الوافدة، ثم تم تتويج الخطة المحكمة بالاحتيال على الفلاحين لبيع أراضيهم تحت ضغط الفاقة التي أصابتهم نتيجة الخطوتين السابقتين..

اليوم يفتخر قسم من الملاّكين السابقين بأنهم استرجعوا معظم الأراضي التي كانت مقتطعة لهم قبل الإصلاح الزراعي، وهناك قسم آخر لا يخجل من التنظير العلني أن الإصلاح الزراعي كان خطأ فادحاً ويجب أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، دون أن يرد عليه أحد ممن يدّعون استمرارهم بتمثيل مصالح «جماهير الفلاحين».. أما الفلاح المصر على التمسك بأرضه وبالزراعة حتى الآن، فإنه كالقابض على الجمر.. يحترق، ويذوي، ويجوع، وليس هناك من يناصره بالأفعال.. لا بالأقوال والشعارات المهترئة.

 

■  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.