«عنجد.. كيف عايشين»؟!
هو ليس سؤالاً للتندر، في زمن الإهمال والتخلي الحكومي والرسمي، زمن التوحش والتطرف والقتل المجاني، زمن التشرد والجوع والألم وتجار الحروب والأزمة.
فالبحث عن الإجابة على هذا التساؤل عند أصحاب الدخل المحدود والفقراء والمعدمين والمهمشين، ليس نزهة؛ هو وجع قلب ونكد ومآسٍ، كما هو تعاطف وبساطة وعفوية وتكاتف، وذلك كله يحفر بالقلب، ويوجع العقل والوجدان في هذا الزمن الرديء.
«ما بعرف شو مخبي بكرا»
أبو محمد، شاب موظف، من سكان حارات ركن الدين، عندما سألته هذا السؤال أجابني وبشكل مقتضب: «الحمد لله مستورة»، كما العادة العفوية لدى غالبيتنا، وعندما ألحيت عليه بالسؤال عن تفاصيل معيشته، وكيف يؤمن تلك المعيشة وضرورات الحياة، بظل الفارق بين دخله ومصروفه، قال بتهكم: «ليش نحنا عايشين، الله وكيلك بقبض من هون بيطير الراتب من هون، عيارو أربع أيام وبس»، وعندما سألته عن بقية أيام الشهر، أجابني: «القصة ما بدت بالأزمة، قبل هيك كان راتبي ما يكفي أصلاً، بس مو لهالدرجة اللي وصلنالها، معاشي بحدود 30 ألف ليرة، ولولا أنو بيت حماي بيساعدوني وواقفين معي، كانت عيشتي بالويل، رغم عايش بأكتر من التقشف، ويمكن نعمة أنو ولادي لسا صغار وطلباتهم قليلة، وما بعرف شو مخبيلنا بكرا!».
المساعدات ذل ومهانة
أبو أحمد، متوسط العمر عاطل عن العمل، قال: «كان عندي محل سمانة بزملكا، خسرتو وخسرت بيتي، رجعت سكنت مع أخي ببيتو بالقاعة بالميدان، وكل يوم ع مشاكل وآل وإيل بين النسوان والولاد، سجلت بجمعية مشان المساعدات، والله لا يوريك، ع ذل ومهانة وتطفيش وكذب وسرقة، بس شو أعمل بحالي صرت مضطر أتبهدل وأنذل مشان شوية مساعدات مو حرزانة، شغل ما عم لاقي، وصرلي 3 سنين عايش ع حساب أخي وأقربائي، يمكن ما رح تعرف القهر اللي جواتي من عجزي، وخاصة وقت منام جوعانين وبردانين، نحنا كبار منتحمل، بس كيف بدك تفهم الصغير، قل لي؟!».
أجرة البيت دابحتني
أبو خالد، موظف مسن، مستأجر في جرمانا، بعد البروتوكولات والكلام المنمق أجاب: «بلا ما تفتق الجروح، راتبي وراتب زوجتي بحدود 60 ألف ليرة، بس اللي دابحني أجرة البيت بعد ما نزحت وتشردت، كل شهر بدي أدفع نص رواتبنا أجار لبيت صغير ومهرهر، وكل كم شهر بتمرمط بالنقل أو بزيد الأجرة، بنتي بالجامعة بدها كل شهر بحدود 5000 ليرة بين مصروف وأجار طرقات، غير التسجيل والكتب، وابني اللي بالثانوية شرحو، والولاد الصغار مقدور عليهم، كنا نستدين ونمشي حالنا بالقروض لنسددها، هلأ ما عاد في قروض، وعم نستنا الفرج».
شوية غراض بـ 8000 ليرة!
أم ماهر، ربة منزل، تسكن في الدويلعة، سألتها عن المصروف وأساسيات الحياة، أجابت: «اللحمة الحمرا نسيناها من زمان، وحتى الجاج رح ننساه، الرز صرت بطبخو بحدود 3 مرات بالشهر بس، والباقي برغل ومعكرونة وعدس وفول وحمص، الله وكيلك بروح ع السوق بشتري كم غرض، يادوب كيسين صغار، بكون دفعت 7-8 آلاف ليرة، المصاري ما عاد فيها بركة، والتجار عم ينهبونا عيني عينك، بس مو طالع بالإيد شي، وقت بيلزمني شي واعة ألي ولا للولاد بروح ع البالة، أصلاً موديلاتها أحلى وبتضاين أكتر، بنتي بدها اسكربينة وما عم اقدر جبلها، ابني ما عاد كفاه 300 ليرة باليوم، معو حق صار طالب جامعة، غير خوفي عليه من الطرقات والحواجز، الحالة بتأسي، المشاوير لغيناها من قاموسنا، حتى عند أهلي وأخواتي وبيت حماي ما عدت رحت متل قبل، مو بس توفير مواصلات وعجقة طرقات وحواجز، بس لأن ما عاد في نفس لشي، العيشة صارت بتقرف، ولا تسألني منين عم نجيب فرق المصروف، الله وكيلك كيف عايشين، وكيف أبو الولاد عم يدبر راسو ما بعرف!».
«حتى البونات سرقوها منا»!
أم خليل، موظفة وربة منزل، تسكن بالأجار في صحنايا، أجابت: «عم نصرف بالشهر بحدود 150 ألف ليرة، وراتبي وراتب زوجي يادوب يوصلو 75 ألف ليرة، أخي اللي هاجر ببداية الأحداث كل شهر بيبعتلي أجرة البيت، عمرنا عم يمضى وما عنا بكرا، بتمنى لو الحكومة تسأل حالها هيك سؤال: أنو الشعب كيف عايش؟ بس شو همهم ما حدا منهم عايش متلنا، شاطرين يطلعو ع التلفزيونات ويحكوا، وهني عم يسرقونا مع التجار، لك حتى البونات سرقوها منا! شو بقي؟».
«الديون متلتلة ع قلبي»
أبو محمود، عامل بالقطاع الخاص، مقيم في مساكن برزة، قال: «بروح ع السوق في كل شي بيحبو قلبك، بس بالجيبة ما في شي، بشوف وبتحسر وبقول لحالي هي البضايع مو ألنا، ما عدت استرجي آخد ولادي برات البيت مشان ما يتسلطو ع شي مو قدرتي، حتى البسكوت ما عدت أقدر اأشتريلهم ياه، هنن معهن حق وأنا معي حق كمان، بس شو أعمل، بشتغل بحدود 12 ساعة باليوم، الله وكيلك يا دوب أرتاح. قبل ما يدخل الشهر بكون بديت آخد سلفة ع الشهر الجاية، السمان ألو معي والخضري متلو، وكتر خيرهن بيصبروني، بس صارت الديون متلتلة ع قلبي ومالي عرفان من وين بدي سدها، وكوم لحم معلق بكتافي، مو بس مرتي وولادي، كمان أمي وأختي برقبتي، مو منّية، أصلاً أنا ساكن عندهم من وقت ما نزحت وخسرت اللي فوقي واللي تحتي، منيح اللي لقيت غرفة تآويني مع عيالي. منقول: اللي بيشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو، بس شو بدنا نعمل مع اللي عم يسرقنا عيني عينك».
الوزرا والمسؤولين منين عم يجيبوا؟
سعيد، صاحب ورشة دهان، مقيم بقدسيا، عندما بادرته بالسؤال غشي من الضحك وقال: «عم تسألني عنجد؟! عمي قبل ما تسأل واحد متلي منين عم يجيب ليعيش، ياريت توجه هالسؤال للوزرا والمسؤولين منين عم يجيبو ليعيشوا العيشة اللي عايشينها! ع القليلة أنا عم اشتغل بعرقي، واللي بطلعو بصرفو، وعايش ع مبدأ ع قد لحافك مد رجليك، بشتغل باكل وبعيش وما بشتغل بدبر حالي بالدين لبين ما يجي الفرج، بس هدول اللي ما حدا بيعرف قياس لحافهم، ولا طول رجليهم وإيديهم، شو مشانهم، مين بدو يسألهم؟».
هاد سؤال بينسأل؟
أسبوع كامل التقيت خلاله بالكثيرين، وكنت أبادر بطرح هذا السؤال عليهم، وقد تباينت الإجابات كما تقاربت. الكثيرين لم يجيبوا عن السؤال، وكانت العبارة الجامعة: «هاد سؤال بينسأل، شو مو عايش وشايف؟».
جميع من التقيتهم كانوا مجمعين على أن ارتفاع الأسعار فيه الكثير من الجشع خارج حدود المنطق ومبررات الحرب والأزمة، بسبب تراخي الدولة وأجهزتها، وغياب دورها على مستوى تأمين المواد والخدمات، حتى أن بعضهم كانت لديهم رؤيتهم الانتقادية بما يخص الواقع الاقتصادي المعاشي من خلال موقعهم الوظيفي، وقد اتفق الجميع على أن الهوة الكبيرة بين المداخيل والمصاريف من واجب الدولة ردمها.
لم أسرد مآسي التشرد والنزوح والخسائر التي تعرض لها جل من التقيتهم، فلكل منهم حكايته التي يمكن أن تكون رواية بتفاصيلها التي لم تنتهِ فصولها بعد، بخيباتها وآلامها كما بآمالاها.
اللحوم والفواكه والحلويات وغيرها الكثير باتت من المنسيات على مستوى الاستهلاك العام، والمواد الأخرى الأساسية والضرورية دخلت حيز التقشف وضرورة الضرورة، حتى المنظفات. المواصلات أيضاً دخلت حيز التقشف، فالغالبية يمضون سيراً على الأقدام للمسافات القريبة والمتوسطة. فواتير الماء والكهرباء والاتصالات كانت عبئاً جامعاً لدى الغالبية، وقد وصلت حد التوفير والتقنين الأقصى من قبلهم.
الغالبية لم تعد تراجع الأطباء عند المرض، بل يكتفون بشرح الحالة للصيدلاني، أو يصفون لأنفسهم الأدوية حسب الخبرات، والتخوف الأكبر لدى هؤلاء من مرض خطير، أو من عملية جراحية طارئة، لا يستطيعون تحمل تكاليفها، ناهيك عمن يعاني من مرض مزمن يستهلك جزءاً هاماً من دخله بين أجور أطباء وقيمة الوصفات الطبية.
حتى المستقبل بات معفشاً!
وبالنتيجة؛ تشرد ونزوح، وفقر وبطالة وعوز، هو واقع الحال عند الغالبية الساحقة من المواطنين، بظل الحرب والأزمة المعاشة، وهيمنة النهب والاستغلال، حتى المستقبل بات معفشاً على أيدي شبيحة الاقتصاد من الفاسدين والناهبين والمتنفذين، حيث أن غالبية من التقيتهم كان همهم هو ما يحمله المستقبل لهم ولأبنائهم، بسبب عدم تمكنهم من امتلاك حاضرهم ولحظتهم الراهنة، وتخوفهم من غدهم المجهول، بظل التوجهات الرسمية التي لم تكترث بمعاناتهم، بل وتزيد عليها.
الناس للناس
التكاتف الاجتماعي ظهر بأوجه عبر حكايات من التقيتهم، رغم قلة التواصل المباشر، بل وانعدامه في كثير من الأحيان، ولكن الملفت أن الإجابات جميعها كانت تمتزج فيها الأنات والتأوهات مع التهكم والضحكات، ولكنها بكل الأحوال كانت عفوية وصادقة وبسيطة، بقدر عفوية وصدق وبساطة هؤلاء الناس.
ولعل من أصدق العبارات التي قيلت على لسان أحدهم: «الناس للناس، ولولا أنو الناس عم تساعد بعضها كنت من زمان شفتها عم تاكل بحالها».