حمد الله إبراهيم حمد الله إبراهيم

مجانين عامودا وفن الكذب

نحن في زمن الاختصاص، بل زمن اختصاص الاختصاص، فنقول فلان مختص بالفيزياء وذاك مختص بالأدب، وفلان اختصاصه الطب البشري والطبيب المختص بمرض القلب نجد من هو مختص بالقثطرة أو بالجراحة القلبية أو بأمراض ضغط الدم...

قديماً لم يكن هناك اختصاص أو مختصون فالحلاق بالوقت نفسه هو طبيب أسنان ويمارس مهنة الطبيب أيضا وغالباً ما يكون من وجهاء المنطقة. لسنا بصدد المقارنة بين القديم والحديث، ولسنا بصدد المختص واللا مختص، لكن سنتحدث عن المختص بفن الكذب، نعم المختص بالكذب على وجه الاختصاص، وربما نسأل: هل هناك من هو مختص بفن الكذب؟ أقول نعم!.

كان حسو يذهب إلى مضافة المختار التي يجتمع فيها معظم رجال القرية مساءً، فيبدأ الأغا ورجاله يلحون على حسو كي يسرد لهم قصةًً من قصصه التي جرت معه، فيبدأ حسو بسردها، فيتعجب الجميع من هذه القصص ولم يشك أحد بأن هذه القصص من وحي الخيال، لأنه كان خبيراً بالكذب فأصبح له مكانة مرموقة في المنطقة. وكان أكثر الناس معرفةً به شقيقه الكبير رمو الذي يحضر المضافة، ولكن يجد نفسه جالساً في آخر المضافة مع الرعيان والخدم بينما شقيقه حسو يجلس مع الأغا في صدر المضافة، وهو أول من يتقدم لتناول الطعام مع الضيوف، وأول من يساهم في طرح أفكاره لحل المشاكل.. وإذا وجدت المشاكل خارج المنطقة يذهب مع الوجهاء لحل تلك المشاكل كوجيه، بينما شقيقه رمو فكان متهماً بأنه أحمق لا يفهم شيئاً، وفي كثير من الأحيان يستخدمه الآغا كخادم له. وفي يومٍ من الأيام قرر رمو أن يؤلف كذبة تشبه كذبات أخيه الصغير ليصبح له مكانة في هذه القرية.

وذات مساء ادعى رمو بأن لديه قصة واقعية جرت معه البارحة، فبدأ الحاضرون يسخرون منه وفي النهاية قال له الآغا هات ما عندك يا رمو فبدأ يسرد قصةًً موجزها أنه سمع صوت (نباح) الكلاب في السماء، فضحك الجميع عليه وعلى قصته وبدأوا يصفونه بالمجنون وبالكذاب وبالمنافق..... الخ.

وعندما وجد حسو شقيقه في مأزق حقيقي تدخل فوراً لإنقاذه وقال يا إخواني الأعزاء ما وجه العجب في سماع نباح الكلاب في السماء، ربما اصطاد طير من الطيور الجارحة جرواً، وطار به إلى السماء، وبدأ هذا الجرو الذي يطلق عواءً من الألم في السماء. فصمت الجميع وقالوا والله هذا معقول جداً، وعند العودة إلى البيت تحدث حسو مع شقيقه رمو بهدوء قائلاً: يا أخي كل منا لديه اختصاص والكذب ليس من اختصاصك بل من اختصاصي.

في هذه الأيام كثر عدد المنافقين والكذابين فالشخص الذي كان يعمل معظم أيام حياته (مخبراً) لدى الجهات الأمنية الخمس أو الست، نراه أكثر تطرفاً في المواقف وأكثر تطرفاً في الشعارات وأكثر صراخاً في المظاهرات، علماً أنه كان أكثر ترديداً للهتافات وأكثر صراخاً أثناء المسيرات الطلابية الرسمية.

سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال، بينما الإنسان الذي يريد المحافظة على هذا الحراك الجماهيري والمحافظة على جماهير هذا الحراك بعيداً عن التطرف، وله في خدمة هذا الشعب أكثر من ربع قرن من النضال، نراه متهماً على الفيسبوك على أنه في اللائحة السوداء أو في قائمة العار أو انتهازي خائن.

أثناء حديثنا عن ظاهرة انتشار فن الكذب والنفاق في هذه الفترة، علق أحدهم ومن لا يكذب في هذه الأيام مجيباً: المجانين وحدهم لا يكذبون أبداً.