من الذاكرة: من فرصوفيا إلى رأس البسيط
ما زلت حتى اليوم أتذكر دعوة رابطة الشباب الديموقراطي في سورية جماهير شعبنا للتوقيع على نداء ستوكهولم لتحريم الأسلحة الذرية ، وجاء في الدعوة تعريف لكل من الحرب والسلم، فالحرب قتل وعدوان وإفناء للناس بالجملة وتخريب وتفظيع ورعب يدب في النفوس الآمنة ، والحرب تعني قنابل وملاجئ وبيوتاً تحترق وتنهار ، وفقداناً للخبز والكاز والسكر وغلاء فاحشاً وبرداً وجوعاً وأوبئة . أما السلم ففيه مجال واسع للإنسان أن يسعد بين أهله وأحبابه وأن يبني مدارج مستقبل سعيد ينمو فيه الأطفال ويترعرعون متنعمين بالعلم والأمن والحياة الكريمة ، كما يتمتع الشباب فيه بحياتهم فيبنون وطنهم بسواعدهم وعقولهم ،كما تطمئن المرأة على أنها شريك فاعل في كل مجالات العمل، العلم والإبداع ورفع دعائم الوطن العزيز ورسم الابتسامات الحية الصادقة على عيون وشفاه فلذات أكبادها.
والمهم في هذه الاستعادة لذكرى تلك الأيام التي شهدت حملة التواقيع الواسعة على عرائض تحريم القنابل الذرية أن نستعيد تذكر نص النداء الذي أحفظه بمجمله :
نطالب بتحريم السلاح الذري تحريماً مطلقاً باعتباره سلاحاً للعدوان ولإفناء الناس بالجملة ، كما يطالب بفرض رقابة دولية على تطبيق ذلك.. ويعتبر الدولة التي تبدأ باستعمال السلاح الذري مجرمة تستحق العقاب الصارم على جريمتها.
لقد شهدت سنة 1955 انعقاد الدورة السادسة لمجلس السلم في مقره في هلسنكي التي شارك في أعمالها 2000 مندوباً من 68 بلداً ونتج عنها بدء حملة دولية للتوقيع على نداء ستوكهولم بتحريم الأسلحة الذرية .. ومن الطبيعي أن يكون الشيوعيون وأصدقاؤهم في طليعة المساهمين في هذه الحملة الإنسانية الواسعة ،وهذا ما ظهر جلياً على نطاق بلادنا الغالية سورية ،حين بادر الرفاق في كل مواقع تواجدهم للمشاركة الفعالة بهذه الحملة ، وذلك بجمع تواقيع المواطنين على هذا النداء وانتعشت حملة منافسة بين الكوادر لجمع أكبر عدد من التواقيع ، وللحصول على لقب «بطل سلام» وقد ساهمت بدوري مع مجموعة من الرفاق في الالتقاء بالمواطنين في بيوتهم وأعمالهم وفي الشوارع فتحدثنا مع الناس شارحين أهمية النداء ومطالبين بتواقيعهم ، وكان هذا العمل يتم بعد وضع برنامج خطة للعمل اليومي يحدد التوجه والمكان والزمان، كل يوم في حارة محددة وشارع أساسي نبدأ من أوله إلى آخره ، على كل رصيف اثنان منا واحد يحمل العريضة وآخر يرافقه ويساعده في شرح المطلوب ، وقد صادفتنا مواقف متباينة بين سرعة في التجاوب والتأييد والتوقيع وبين جدال البعض أو تهربه من المساهمة في التوقيع ، ومن الحوادث الطريفة التي وقعت معنا أن أحدهم بعد أن وقع على العريضة وقف يتابعنا ونحن نتحدث إلى الناس العابرين في الشارع أو الواقفين أمام المحلات والدكاكين وحين اقتربنا من أحد أصحاب المحلات وبدأنا نشرح له المطلوب قال متعجباً : «هلأ إذا وقعت على هذه العريضة بتحرم السلاح الذري!» فقلت له : «طبعاً إن توقيعك أنت وآلاف آلاف الناس في بلادنا وفي بقية بلدان العالم سيؤدي حتماً إلى إجبار تجار الحروب ورضوخهم لطلب ملايين من الناس .» فما كان من صاحبنا «الأول « الواقف يتابعنا إلا أن ناداه قائلاً «وقع على العريضة» وأشار له بيده وهو يحركها نحو رأسه «هو» بطريقة تدل على أننا مجانين !!.
وقد جاء ترتيبي في جمع التواقيع رابعاً على مدينة دمشق ، أما الأول فكان الرفيق سعيد شبلي أبو نبيل الذي كان يعمل جابياً على أحد باصات النقل الداخلي والذي لم يضع لحظة من وقته وهو يقطع التذاكر للحصول على تواقيع الركاب على مدار اليوم كاملاً .. وقد جرى ترشيحنا للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي في بولونيا، وقد جهزت جواز السفر .. وقبيل السفر فوجئت باختفاء جواز السفر ((الذي علمت فيما بعد أن والدي هو الذي خبأه كي لا أسافر للمشاركة في المهرجان)) وقد سافر الرفاق والأصدقاء المشاركون إلى بولونيا مودعين بمحبتنا وأملنا في نجاح مشاركتهم ، وأنا بدوري غيرت وجهة «السفر» مضطراً وانطلقت مع سبعة من أصدقائي إلى رأس البسيط لتمضية عشرة أيام حافلة بالسباحة والاستجمام.