من الذاكرة: تشكيلة!
تظل الذاكرة مخزن الأحداث والوقائع تتفاوت في تأثيرها وصداها حين تستعاد، ففيها الكثير مما يفرح ويسر، وكذلك فيها ما يحزن ويؤلم، ولكنها في كلتا الحالتين بعضاً من حياتنا وقصة عمرنا طال أم قصر. ومن فيض هذه الذاكرةأسترجع ذكرى مرحلة من طفولتي التي امتدت من سنتين قبل دخول المدرسة إلى نهاية مرحلة التعليم الابتدائي والتي ارتبطت وبشكل وثيق مع عمل والدي حينها، «وبصفتي» أكبر أبنائه الذكور، كان يصحبني معه إلى حيث يعمل،وطبعاً كان اصطحابه لي في سنوات التعليم يقتصر على العطلات الصيفية، وتعود تلك الذكريات إلى أربعينيات القرن الماضي، فقد كان الوالد يعمل سائقاً في كراج «الخرفان» للسفر إلى المحافظات الكائن في مدخل «البحصة»المتفرعة عن ساحة المرجة إلى جانبة سينما أمية وساحة المرجة «ساحة الشهداء» ستكون «الساحة» الأساسية لزاوية هذا العدد.. إنها المركز الرئيسي لمدينة دمشق في ذلك الوقت، ولها في الخاطر والقلب مكانتها فهي ألق لايعرف الأفول، وقد أجادت الأغنية الشعبية الشامية في وصفها:
زينو المرجة والمرجة لينا
شامنا فرجة وهي مزيّنة
ومدينة دمشق «تلتقي» بالمرجة عبر ثمانية شوارع تصب فيها، وفي وسطها حديقة ينتصب في أحد جوانبها نصب تذكاري لشهداء 6 أيار عام 1961 الذين أعدمهم جمال السفاح. وحول الساحة تمتد سكة الحافلات الكهربائية«الترام» التي تصل إلى أغلب أحياء المدينة «المهاجرين، الشيخ محي الدين، الميدان، القصاع، والترام يصل إلى ناحية دوما على بعد خمسة عشر كيلو متراً عبر قرية عربين وزملكا وحرستا. وعلى أطراف الساحة تنتصب أبنيةمازالت مرسومة بالذاكرة على الرغم من أن أكثرها قد أزيل وقامت مكانها أبنية حديثة. ومن الأبنية التي أزيلت بناء البلدية وكان له بابان، الرئيسي على الساحة والثاني من جهة الغرب وأمامه صنبور لماء الفيجة، ويا طول ماقصدته لأملأ الجرة الصغيرة وأحملها إلى المحل الذي يعمل فيه والدي «كراج الخرفان» ثم محل طوطح لبيع دواليب السيارات بين الجامع ومحل «النيشان» للرماية ببنادق صغيرة «على الخردق».. ثم في محل لبيع البنزينوالزيوت المعدنية قرب فندق غازي، وسينما غازي، خلف السرايا مباشرة، واليوم تترسم أمام ناظري مناظر الازدحام الذي يرافق الأعياد وتجمع عشرات الأطفال والشباب أمام مدخل سينما غازي حيث يقف أحد عمالها علىكرسي خشبي وبيده سلة فيها تذاكر الدخول وهو ينادي بأعلى صوته مغرياً الصغار للدخول إلى السينما «تعا تفرج على طرزان والقردة شيتا.. تعا تفرج على رجال الفخّار.. تعا تفرج على غزو المريخ». ومن الأبنية التي أزيلتبناء المحكمة «العدلية» وبناء البريد «البوسطة» وقهوة علي باشا بزبائنها المداومين، ومنهم عدد من السائقين الذين ينتظرون امتلاء سياراتهم المركونة في كراجات عدة قريبة من الساحة، وهم يلعبون طاولة الزهر، التي كرهتهالأن والدي كان يلعبها مع أصدقائه و«يصلبني» على كرسي إلى جواره لساعتين وأكثر وأنا لا أستطيع مغادرة المكان إلى أن ينهي لعبته مع من يتحداه. وإلى جوار القهوة سوق مسقوفة لبيع الفواكة تحمل الاسم ذاته «سوق عليباشا» وعبر السوق لطالما سعدت بالمرور ذهاباً وإياباً وأنا أشاهد بل «أتأمل» الفواكه المتنوعة المرصوفة بعضها فوق بعض بشكل أنيق في مدخل المحلات الصغيرة، وهي بأجمل وأشهى أصنافها، ورائحتها الزكية التي تنعشالصدور والنفوس. ومن الأبنية التي مازالت قائمة بناء فندق عمر الخيام وبناء العابد «النفوس» السجل المدني وفي طابقه الأرضي عدد من أشهر محلات بيع الحلويات، وإلى جوارها وخلفها عدد من محلات بيع المشروباتالروحية والمكتبات الصغيرة، وعلى الجانب الثاني من زقاق «رامي» محل مشهور لبيع الألعاب «ABC» وإلى جانبه محل لبيع البوظة «صورته ماثلة في خاطري» فقد قصدته بطلب من والدي «لأوصيه» على تسع زبادي بوظةمشكلة لضيوف شريك والدي في محل السيد علي ريحان، والضيوف هم أبو وأم وإخوة المطربة نجاة الصغيرة – وهي معهم - وكانت حينها في العاشرة أو أكثر قليلاً من عمرها .. وكانت تؤدي بعض أغاني أم كلثوم.
ومن ذكريات تلك الأيام ذكرى «بوسطة» حارة الأكراد التي تقف في السوق العتيق بين جامع «يلبغا» ومحل العطار المشهور .. وعند امتلاء البوسطة بالركاب تتحرك باتجاه الحارة، وأذكر تماماً أنها لا تتحرك (إن كان فيها راكبولو واحد «واقفاً» أي زيادة عن عدد الكراسي) إلا إذا نزل ! وكان ثمن تذكرة الركوب سبعة قروش ونصفاً للراكب « العادي» وخمسة قروش للراكب «الهوية» أي الطالب أو المعلم، أما رجال الأمن فهم لا يدفعون ثمن التذكرةويكتفون بكلمة «باص»، ومن قصص «البوسطة» وسائقها وركابها، أتذكر أنها كانت تنطلق من قرب المرجة باتجاه البحصة فبوابة الصالحية فطريق الصالحية إلى الشيخ محي الدين، ومن هناك تتجه عبر حارة الصالحية إلى أنتصل إلى آخر موقف لها في «راس» الحارة، وكان السائق يتوقف أحياناً أمام «بضعة لاعبين بطاولة الزهر أو المنقلة» ليرى بعضاً من «لعبهم» فيضج الركاب صائحين « تحرك يا أخونا بدنا نوصل لبيوتنا» ومن أطرف القصصوبطلها أحد أبناء الحارة وهو درويش وبسيط جداً صادف جلوسه مرة إلى جانب أحد رجال الأمن المدنيين ولفت نظره أن رجل الأمن لم يدفع ثمن التذكرة وقال للجابي «باص» فسأل الدرويش رجل الأمن « شو معنى باص»،فضحك من بساطته وقال «باص.. يعني معي دفتر عيلة». بعد هذه المحاورة حين عاد الدرويش إلى بيته وضع دفتر العائلة في جيبه وعندما ركب الباص.. جاءه الجابي ليستوفي ثمن التذكرة فقال له «باص» وأبرز له دفتر العائلةفقال له الجابي ضاحكاً: هل المرة حمشيها.. وهادا الدفتر بتركب فيه ببيتك مو بالبوسطة!