يوسف البني يوسف البني

أزمة النقل في ظل الأزمة الوطنية المستعصية.. الشوارع تزدحم بمنتظري وسائل النقل.. ووسائل النقل تنتظر الإفراج عنها!!

بادرت وزارة النقل، ضمن مسلسل خصخصة القطاع العام الذي اتبعته الحكومة السابقة أو تحويل استثماراته من منتفعين وصغار الكسبة إلى حيتان المال والتجار الكبار والشركة الاحتكارية التي بُنيت أساساً على قروض من خزينة الدولة كان من الواجب أن تستخدمها الدولة لإعادة إحياء القطاع العام، الذي هو العماد الأساسي للاقتصاد الوطني، بادرت هذه الوزارة إلى إخراج السرافيس التي تعمل على نقل المواطنين في شبكات واسعة من أحياء دمشق للعمل في القرى والأرياف والبلدات الصغيرة، مقابل حضور شركات استثمار خاصة أخذت على عاتقها استيراد أعداد من الباصات الحديثة وتشغيلها مكان السرافيس المهجَّرة.. وكان يفترض بوزارة النقل أن تسعى، مثلما تفعل معظم دول العالم الحديث والمتطور، إلى الاستمرار في دعم قطاع النقل من خلال تطوير إمكانات وقدرات الشركة العامة للنقل في كل المحافظات، والتوسيع في أعمالها ومهامها، بينما على أرض الواقع، وتحت يافطة التشاركية، جرى السعي بالتدريج إلى إلغاء المهام والأعمال التي تقوم بها الشركات العامة وبخطوات متسارعة، ليكون من نتيجتها أن المواطن السوري هو الذي راح يسدد الثمن من خلال فرض تعرفة ركوب لا تتوازى مع حقيقة الرواتب والأجور، وخضوع الركاب إلى معاملة سيئة أحياناً من السائقين في الشركة التي لا يضبطها قانون ولا تخضع لأية شروط، وكان الأجدر بالمسؤولين في وزارة النقل أن يبادروا في وقت مبكر إلى استيراد الباصات الجديدة بمواصفات بيئية صحيحة لمصلحة الشركة العامة للنقل الداخلي في المحافظات بدل دخول القطاع الخاص على هذا المجال والسعي خطوة خطوة لاحتكار الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الذي لا يخلو من المغريات والأرباح الكبيرة.

 

مع ذلك، ورغم انصياع الناس وقبولهم بالأمر الواقع، وقبولهم بوجود باصات شركات النقل الخاصة إلى جانب باصات الشركة العامة للنقل الداخلي في شوارع مدينة دمشق، إلا أن أزمة النقل لم تجد إلى الحل النهائي سبيلاً، فكل يوم باتت هناك أزمة جديدة، وكثيراً ما بتنا نرى مظاهر التجمعات الكبيرة للمواطنين على المواقف الرسمية في انتظار وسيلة نقل توصلهم إلى أماكن عملهم أو دراستهم أو العودة إلى مساكنهم..

مؤخراً، وأمام إحدى الكليات التابعة لجامعة دمشق لاحظت «قاسيون» تجمعاً كبيراً غير مألوف لطلاب وموظفين ومواطنين آخرين، ينتظرون قدوم وسيلة نقل، ولكن طال الانتظار عبثاً. وفي لحظة، بدت كأنها غير حقيقية، اجتاز الشارع عدد كبير من باصات النقل الداخلي، تبين أنها خارج الخدمة، وتقوم بنقل عناصر الأمن والشرطة وحفظ النظام في مهمة معينة، بعيدة تماماً عن مهمتها الأساسية، وفي لحظة تالية تم الربط بشكل منطقي بين منظر هذه القافلة من الباصات وبين الجمع الغفير من المواطنين الذين أحرقتهم شمس الظهيرة، وهم ينتظرون وسيلة نقل إلى بيوتهم أو أعمالهم أو دراستهم. ودار الجدل والنقاش بين المتواجدين، واستطعنا ضمن هذا الزحام استشفاف الآراء والتصريحات التالية:

 

تهميش المواطن أدى إلى الاحتقان

ـ الطالب نعمان ط قال: «إن أزمة النقل والتنقل والسير والمرور، مرادفات لمضمون واحد، وهو أن دمشق، كنموذج للمدن السورية كافة، تعيش أزمة نقل مستعصية منذ سنين طويلة، وفي الأشهر الثمانية الأخيرة التي تفجرت فيها الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات، زادت وتفاقمت أزمة النقل بسبب الإخراج القسري للباصات العاملة على خطوط النقل الأساسية ضمن المدن، عن خطوطها لوضعها في خدمة عناصر الأمن وحفظ النظام والشبيحة، وترك المواطنين ينتظرون وسيلة نقل فلا يحصلون عليها. وبالنتيجة نرى أن المواطن هو الذي يدفع ثمن أخطاء وزارة النقل والداخلية وغيرها من الجهات صاحبة القرار، علماً أن التهميش واللامبالاة بالمواطن من قبل السلطة، هو أحد الأسباب التي أدت إلى توتر النفوس واحتقانها، والتعبير عن هذا الاحتقان بالاحتجاجات الشعبية والمظاهرات المُطالبة بالإصلاح والحرية والكرامة».

ـ أحد المواطنين في الخمسين من العمر قال: «لا أدري بأي حق وبأي منطق يتم إخراج الباصات من الخدمة في الوقت الذي ينتظر فيه المواطن وسيلة نقل من غيمة، وكيف تسخَّر هذه الباصات في مهمة ليست مهمتها! مع أنه بالأساس باصات النقل غير كافية لتخديم العدد المتزايد من الركاب، وخاصة طلاب الجامعات، وكان يفترض أن تضمن وزارة النقل مسبقاً بأن الأعداد المتوفرة من باصات الشركات التي تستثمر في النقل الداخلي من الشركة الحكومية أو القطاع الخاص، قادرة على استيعاب أعداد الركاب الذين كانت السرافيس تقوم بتخديمهم، وهذا الجانب بالأساس لم يتحقق وترك هوة واسعة بين أعداد الركاب والحاجة الفعلية المتزايدة للباصات، وهذا يرجعنا بالأذهان إلى واقع حال النقل الداخلي خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، وعادت أيام زمان بنكهة هرشو وما شابهها، بعد الترحم على الشركة العامة للنقل الداخلي، فالمظاهر السابقة يُعاد إنتاجها كما كانت تماماً، بدءاً من انتظار الركاب على المواقف الرسمية لمدة قد لا تقل عن نصف ساعة، حتى يحالفهم الحظ في ركوب وسيلة نقل، وليس انتهاء بمظاهر التدافع، واستيعاب الباصات لأعداد مضاعفة من الركاب بحيث يتعذر على الراكب الفوز بمقعد، وهناك عبارة كُتِبت داخل الباصات تشير بكل سخافة إلى حجم استيعاب هذه الباصات للركاب، وتقول «عدد الركاب /100/ راكب، /26/ جلوساً و/74/ وقوفاً» وهذه الظاهرة تشير دون أدنى شك إلى أن أعداد الباصات مازالت أقل بكثير من احتياجات المواطنين».

 

لحل الأزمة يخلقون أزمات جانبية خطيرة

ـ الطالب حسام ع قال: «للأسف ليس هناك ما يبشر بإمكانية معالجة الأزمة السورية بشكل عقلاني، لأنه في إطار البحث والسعي لحل الأزمة يقوم أصحاب القرار بخلق الكثير من الأزمات الجانبية التي تتطلب حلولاً بدورها، وبهذا تتسع دائرة التوتر والاحتقان وغضب المواطنين من الكثير من الممارسات التي يدفعون ثمنها ولا ذنب لهم فيها. وهذه النظرية لم تأتِ من فراغ، وإنما تعود لرؤيتي على أرض الواقع وبشكل واضح قصور الحلول وغياب الاستراتيجية التي من شأنها إعادة النظر بكل منظومة السياسات والقرارات والممارسات، والعمل على تلبية المطالب الشعبية، أو على الأقل الممكن والمُلح منها، لتخفيف حدة التوتر والغليان الشعبي. وللأسف مرة أخرى، فإنني أرى أن ما ينتظره المواطن السوري من انفراج وحل للأزمات، مازال أشبه بحلم بعيد المنال. أما بالنسبة لمشكلة النقل الداخلي سواء كان على عاتق الشركة الحكومية أو المستثمرين الجدد، فإن الباصات بقيت تشكل حلاً ترقيعياً، وتدور في فلك الإجراءات القاصرة والمتخلفة، حيث أن بدائل النقل الحضارية تتمثل في مترو الأنفاق أو قطارات المدن، وكانت هناك تصريحات حكومية ورسمية تشير إلى إمكانية تنفيذ الخط الأول مطلع عام 2015، ولكنني أشك بمصداقية هذا الوعد وهذا التاريخ، ولا أستبعد أن تطول رحلة الوعود، ويبقى المترو مجرد حلم، رغم أنه بات من منسيات دول العالم منذ أكثر من ربع قرن».

ـ الطالب مصطفى ب قال: «هذا أحد المظاهر التي اعتدنا عليها من تخبط السلطة والحكومات المتتالية في معالجة الأزمات، ففي حين تحاول السلطة إقناعك بأنها تحاول حل الأزمة، فإنها تعالج الخطأ بخطأ أكبر، وبذلك فإنها للتخلص من أزمة ما تخلق أزمات أكبر، وهذا على الأغلب نابع من عدم وجود دراسة مسبقة لأية خطوة أو أي قرار تتخذه وتمارسه السلطة على أرض الواقع، وخاصة هنا على الصعيد المروري، فغياب الدراسة الجدية للواقع المروري غيَّب النظام، فاختلط الحابل بالنابل، وساد عند الكثير من المواطنين الاعتقاد الشائع بأن الازدحام المروري الحاصل سببه عدم قدرة الشوارع على استيعاب هذا الكم الهائل من السيارات والمركبات، ولكن في الحقيقة أن هذا ناتج عن غياب الخطط الجدية والمدروسة، وغياب التنسيق بين الجهات المعنية في هذا الموضوع لحل المشاكل المتفاقمة في الواقع المروري، فأحياناً ترى الكثير من المفارق الهامة لا تحكمها أو تنظمها إشارات مرور، وأحياناً نرى إشارات مرور في مكان لا لزوم لها فيه، وأحياناً ترى الكثير من السيارات التي تحتل جانبي الطرقات الضيقة والأحياء الفرعية والجانبية، ولا تترك مجالاً لمرور السيارات بأي من الاتجاهين، ولا يوجد أماكن كافية لمواقف السيارات إلا ما كان مأجوراً منها، فالمحافظة أجَّرت حتى شوارع المدينة لأهلها وسكانها».

 

استياء الركاب من الباصات وأخلاق سائقيها

ـ الطالب أيوب ج قال: «نشعر أن كل قرار، حتى وإن كان يُقصَد به ظاهرياً خدمة المواطن، إلا أنه بالنهاية هو خدمة شخصية لأصحاب القرار فقط وتسهيلاً لمصالحهم الخاصة، فإذا كان السبب في إخراج الميكروباصات والسرافيس عن خطوطها ووضع الباصات مكانها، إن كان للشركة العامة للنقل الداخلي أو شركات النقل الخاصة، هو محاولة لحل مشكلة الازدحام، فالواقع أثبت عكس ذلك، حيث نلاحظ وجود أزمة جديدة تتجلى بتضاعف الازدحام، وإنك تحس باستياء الركاب من هذه الباصات، فما بالك اليوم وقد أتى وقت تركتنا هذه الباصات منقوعين في حر الشمس والغبار، وأُخرِجت بشكل قسري من الخدمة لتستلم مهمة أخرى ليست مهمتها، ولتحرم المواطنين من الحصول على وسيلة نقل في الوقت المناسب، وتعطِّل لنا أشغالنا ودراستنا، وتؤخرنا كثيراً عن دوامنا، وانظر إلى هذا الازدحام الذي تعاني من مواقف الباصات، والله (قرَّفونا) حياتنا، وشعلوا نار الغضب جواتنا على ممارسات الحكومة».

ـ الطالب إلياس خ قال: «أنا لا أجد غريباً أن تتركنا هذه الباصات في هذه الحالة، فهي بالأساس ليس همها أن تخدمنا كمواطنين عاديين، بل هي وُجِدت في ظروف خاصة وضمن قرارات خاصة لتقوم بمهمات خاصة لأناس مخصصين في أوقات خاصة، وهذه لعبة من وزارة النقل وإدارة الشركة العامة للنقل الداخلي حتى يخلو الجو لباصات الشركات الخاصة لتحصد الأرباح والعائدات كاملة، فباصات الشركة الحكومية لم يتم إعادة تأهيلها لمنافسة القطاع الخاص الذي يتم تشجيعه قصداً على حساب القطاع العام، وليست جاهزة كي تتحمل العمل على خطوط المدينة، رغم أنه تم تسكيجها على أعين العالم فقط، فماذا تنتظر من باصات عمرها أكثر من 35 عاماً؟ أبي موظف في الشركة العامة للنقل الداخلي، وقد ذكر أن تكلفة إعادة تعمير الباصات باهظة، وتتراوح بين 400 ألف ليرة سورية وصولاً إلى مليون و300 ألف ليرة سورية للباص الواحد، وهذا أعلى من ثمن شراء الباص الصيني الجديد، الذي يمكن للشركة أن تشتري الآلاف منه وتضعها في الخدمة كمنافسٍ قوي للقطاع الخاص ويرفد خزينة الدولة بمبالغ طائلة، لأن قطاع النقل رابح بامتياز، وهناك في الوقت الحاضر عدد من الباصات التي يمكن تأهيلها بقليل من الصيانة، ووضعها بالاستثمار في حال توفُّر السائقين، وهذا يوفر خدمة للمواطنين في توفير النقل، ويخلق فرص عمل لعدد من السائقين، ولكن للمسؤولين الكبار في وزارة النقل رأي آخر هو أنه يمكن تأجير هذه الباصات للقطاع الخاص لاستثمارها برسوم رمزية، وهذا بهدف تبادل اللقمة (طعميني حتى طعميك). واللافت للنظر لهاث بعض المسؤولين للتخلي عن الأرباح والمكاسب التي يمكن جنيها لمصلحة خزينة الدولة، والاستغناء عنها ليستفيد منها القطاع الخاص والتجار الكبار والشركات الاحتكارية، الذين هم وراء كل المآسي والمشاكل التي يعانيها ويواجهها المواطن السوري».

اصطياد الراكب حتى تحت خطر الحادث

ـ المواطن عبد الله ن قال: «نحسن أن الباصات قديمة من حيث أدائها، رغم أنها من الخارج تبدو جديدة، ولكن ينبعث الدخان بشكل كثيف من محركاتها، وهذا يؤثر على الصحة العامة والبيئة، أما من حيث العمل فيبدو أن للسائق نسبة من الإنتاج أو من ثمن مبيع التذاكر، الأمر الذي يدفع سائق الباص للوقوف في منتصف الشارع، وأحياناً بشكل مفاجئ، وقد يهدد ذلك بحدوث الحوادث الضارة للسيارات والمارة، وكل ذلك فقط ليصطاد حتى لو كان راكباً واحداً، ولا يهمه تذمر أو استياء أو حتى ضرر الآخرين».

ـ السائق عباس، العامل في الشركة العامة للنقل الداخلي قال: «العلاقة بين جميع شركات النقل الخاص والشركة العامة للنقل الداخلي هي عبارة عن عقود استثمار أعدتها وزارة النقل وهي مشمولة بقانون الاستثمار رقم 8 لعام 2007، وبدل الاستثمار هو 150 ليرة سورية فقط يومياً للباص الواحد لمصلحة الشركة العامة للنقل الداخلي، ومدة العقد 10 سنوات قابلة للتمديد بموافقة الطرفين، إن هذه الـ150 ليرة سورية هي أجور 15 راكباً فقط، وهذا العدد لا يتعدى كونه ربع عدد الركاب في سفرة واحدة للباص، فإذا علمنا أن متوسط عدد السفرات للباص الواحد خلال الواردتين في يوم عمل كامل هو 16 سفرة، نجد أن النسبة من العائدات التي تحصل عليها الشركة العامة لا تتجاوز %2، بينما يحصل المستثمر على %98 من العائدات، فاحسبها يا رعاك الله.. علماً أن الشركة تدفع من هذه الـ%2 أجور ورواتب موظفيها، حيث أن كل مستثمر يعمل تحت إشراف لجنة مؤلفة من ثمانية أفراد هم معاونو مدراء أو مهندسون أو خبراء نقل، ويكون دور اللجنة مراقبة الباصات، وعدد العاملة منها، ونظافتها والازدحام، وتعامل السائقين مع المواطنين، من خلال جولات صباحية ومسائية يقومون بها على الخطوط الخاصة بهم. وهذا من حيث الظاهر فقط، ولكن تبقى الأمور المخفية تحت الطاولة هي الأخطر، فمعظم العقود تقوم على الاحتكار لا على المنافسة الشريفة، مما يؤدي إلى سوء في الخدمة المقدَّمة للمواطن، فقد انفردت كل شركة بخط نقل، بينما كان من الواجب اتِّباع طريقة المزايدة التي تتيح للشركات كافة الاشتراك في هذا المشروع، ولكن هناك خلف الأكمة ما خلفها».

 

كلمة أخيرة

إن أزمة النقل والمرور في دمشق والمدن السورية الكبرى التي زادت وتفاقمت مع أشهر الأزمة الوطنية التي تمر بها سورية واستغلال وسائل النقل العامة المخصصة لخدمة المواطنين في مهمات جانبية ليست مهمتها، يدل على غياب التنظيم وانعدام المسؤولية من أصحاب القرار تجاه المواطن وتهميشه وجعله في أسفل قائمة الاهتمامات، وهذا ما يزيد الهوة بين المواطن والسلطة، الأمر الذي يولد استياءً واحتقاناً قد يتجلى بأي شكل من أشكال الرفض والاستنكار والاحتجاجات.