عصاب الحرب  كأحد مفرزات الأزمات العامة
د.مرسلينا شعبان حسن د.مرسلينا شعبان حسن

عصاب الحرب كأحد مفرزات الأزمات العامة

عصاب الحرب (s.p.t)، هو العصاب الذي يظهر بعد ستة أشهر أو سنة من عيش الموقف الصادم، وله أغراض عديدة، تنجم عن شدات نفسية عالية التأثير(stress)  نتيجة خوض الحرب أو معايشتها عن قرب، وتقسم الأعراض فيها الى ثلاثة أبعاد :
- بعد داخلي.
- وبعد اجتماعي وعائلي.
- وبعد متصل بالاستعداد المسبق للصدمة .

بقلم المحللة النفسية
د.مرسلينا شعبان حسن

البعد الأول «الداخلي»: يتمثل بتكرار الحادث الصادم، من خلال عيشه على المستوى المتخيل وجدانياً، والمفاعيل الوجدانية والاضطرابات العاطفية المصاحبة لذلك.
يتغلف الحدث داخلياً عبر الكبت، وهذا له أضرار ومفاعيل لا تحمد عقباها للمستقبل، الذي قد يتفجر في أية لحظة عبر تحفيز معين لبعض المؤثرات المتصلة بالحدث وشدتها، وحصول نوم غير مستقر مصاحب بأحلام غير مريحة، تأخذ أحياناً صفة الكوابيس، تتصل بالذكرى الشّديدة في الحدث المصاحب المعاش عبر الحرب، وتبدأ الهلاوس المختلفة تفرض نفسها على مدار الوقت، لدرجة يخال للشخص المصدوم، وكأنه يعيش المعركة.
البعد الثاني «اجتماعي عائلي»: يتمثل بالعزلة والرغبة بحصر الوسط الذي يتعامل معه الشخص بأشخاص محدودين، وانعزال عن الرفاق المقربين، وكذلك قد يتم التمركز على شخص أو شخصين في العائلة ويتم الابتعاد عن باقي أفراد العائلة.
البعد الثالث «الاستعداد المسبق للصدمة»: متصل بالحالة السابقة للحادث الصادم أو الحادث المأزوم مثل:
الخوف الشّديد من الماضي، وحتى المستقبل.
الحساسية الانفعالية، وسرعة وشدة الغضب المصاحبة للتصرفات العنيفة.
قلة التحمل وعدم المقدرة على الصبر.
الشّعور بالذنب الملازم لأعراض اكتئابية.
شعور خاص بأن ايقاع الحياة يتم ويسير ببطء، مما يتسبب بألم نفسي عميق.
ضعف المقدرة على التذكر واختزان المعلومات، مما يتسبب بحالة من العجز على الإنجاز، وصعوبة البت بأي قرار، مهما كان بسيطاً نتيجة الإرباك والتردد.
مواقف جديدة، وتجنب تجاه كل ماله علاقة بالحدث، عن قرب أو من بعيد.
ومن الأعراض المتصلة أيضاً بمرحلة قبل الحدث الصادم، أو أزمة العيش لموقف معين:
الإدمان على الكحول، وأيضاً المخدرات والمهدئات، مما ينعكس على الاضطراب العام على أداء الشخصية، وتنظيم تفاعلها واستقبالاتها، يتجلى ذلك عادة بسلوك عدائي للآخرين المقربين من الشخص، ومن المجتمع بصورة عامة، أو ظهور أعراض مرضية عضوية «نفس–جسدية» (قلب–ضغط- سكري).
ظهور أعراض قهرية تكرارية، وهذه أبرز الأعراض التي تتكرر نتيجة صدمة الحرب، وهذا له مفاعيله غير الحميدة بعد انتهاء الحرب.
وهناك حقيقة تلاحظ بأن نسبة الأفراد من العسكريين، الذين تظهر عليهم صدمة حرب، يأتون من بيئات مترفة.
وهناك أسباب مميزة تتصل بالعسكريين، تسهم في احتمالية تعرضهم لمخاطر مرض عصاب الحرب مثل:
خطر الموت المستمر، والمهدد من خطر مداهم قد يفاجأ به الجندي في أرض المعركة.
مما يجعل هؤلاء العسكريين يعيشون ضمن حاجز نفسي واستفزاز نفسي دائم، يستنفذ طاقاتهم بعامة، النفسية منها أو الجسدية.
ردة الفعل المبالغ فيها من أية إصابة جسدية.
وذلك عائد إلى خوف جسدي مرتبط بهوامات وجود الجسد على أرض غير آمنة، تُشعر الجندي أنه في بيئة غير حاضنة له، ترجعه لهلع ورعب من خلال شعور الوحشة المضاعف في ذهنيته حولها.
كثرة إصابة الرفاق بأرض المعركة، أو فقدهم بموت أو اختطاف أو أسر، تزيد مفاعيل الصدمة، مما يسهم بعيش الذهول والحذر عندما يحصل لأحد الزملاء حوادث فاجعة أمام أنظار رفاقه الآخرين.
شعور العدائية والغربة الداخلية، وكأن الشخص يعيش في بلد الاغتراب، رغم أن قربه عن عائلته ربما لا يتعدى الكيلومترات القليلة، لأن الجندي متى دخل المعركة؛ تنتابه مشاعر وحشة لا يعرف حدودها ولا يعرف كيف تنتهي، ويضع في اعتباره أنه على موعد مع الموت كسبيل للتكيف الآني، ويسلم أمره للقدر والمشيئة الإلهية.
يلاحظ أن أغلب العسكريين الذين يشاركون في المعارك، في أي حرب، هم شباب في عمر حساس من نضج الشخصية، وعمر الزواج وتأسيس العائلة، لذلك نجد أن ما يغلب على هؤلاء الأشخاص:
التعلق العاطفي الذي سلختهم الحرب عنه، حيث أن الحرب تغير في إيقاع الحياة اليومية السائد، من عادات الطعام والنوم وقضاء الحاجات برمتها، هذه المعطيات المضطربة تولد الأرق واضطراب الشهية، مما تجعل العسكريين في ظل الحرب أكثر هشاشة وتعرضهم لعصاب الحرب.
إضافة لذلك، هناك عوامل سجلتها الدراسات المتصلة بضحايا الحروب العالمية الكبيرة ومنها حرب فيتنام مع الامريكان، ومن هذه العوامل:
عامل المفاجأة، حيث يقدر سرعة المفاجأة بقدر ما تتضعضع الصلابة  الشخصية.
مواجهة العدو المتخفي، هي أشد رهبة ولاسيما في حرب العصابات أو الجماعات المسلحة، لأن الوجه غير المرئي يخفي المعالم الإنسانية، ويفقد عند الآخر المقابل السيطرة، وحيث أن عامل المفاجأة تعيد الشخص إلى المخيلة الأولى في المراحل الطفولية الأولى، عند عدم اكتمال نمو المفاهيم حول الأشخاص والحياة، فهنا تخرج الصورة المخفية مثيرة لكل الخيالات المرعبة.
قد تتفاوت أعراض عصاب الحرب ما بين الخوف والقلق مع زيادة التوتر، نتيجة خبرات المعارك، وفق السيطرة على الانفعالات، وأيضا يلاحظ سرعة الاستثارة والحساسية والاستجابة المفرطة للأصوات والحركات الفجائية، والغضب الشديد والعنف ورد الفعل الزائد للإصابة بين الرفاق.
صعوبات التركيز والتذكر والارق والأحلام المزعجة، إلى الارتجاف والفزع والصمت والذهول، وعدم القدرة على الحركة، وحالات الاكتئاب، ولاسيما عندما يقتل أحد من زملائه أمامه، مما يجعله قليل الحركة، وتنشأ لديه أفكار اتهام للذات، إلى الذهان الذي تشتد فيه أعراض الشك، وخاصة عند الأشخاص المستعدين له قبل حدوث المعركة.
ومن الأعراض التي تشاهد بكثرة لدى من يتعرضون لعصاب الحرب، اضطرابات الجهاز العصبي، وخاصة الجهاز الهضمي، مثل فقد الشهية والغثيان والإسهال، وأعراض جهاز الدوران، المتمثلة بسرعة النبض وسرعة دقات القلب واضطراب التنفس.
تفسير عصاب الحرب
من الوجهة النفسية التحليلية
بأن الشخص يدافع عن ذاته ضد خطر يتعرض له من الخارج، أو يتجسد في شكل يتخذه الأنا نفسه، ومرد عصاب الحرب إلى الشدائد العميقة البسيطة و المتواصلة، والصدمات الانفعالية الناجمة عن المعركة، ونقص مقاومة المقاتل على تحملها نتيجة للتعب أو المرض، (الشخصية غير الناضجة في الأصل، ونقص القدرة على كبت الخوف الطبيعي والإخفاق في السيطرة على القلق والتوتر الشديدين).

مشروع الحياة هو الهدف الأساس لعمل النفساني
بعد أن يطغى الموت على كل مفاصل الحياة، مشروع الحياة هو سلاح في مواجهة حرب مشروع الموت، بمعنى العمل على كشف ستار الضحية في الحروب، من خلال إيضاح القيم الوجودية في حياة المتحاربين، واحترام الأرض والأخوة أولا، حيث النصر النهائي الذي لا يغيب عن أذهاننا، لم يكن أبداً بفعل السلاح عبر كل حروب البشر.
المهم في عمل النفساني، وفي ظل الأزمات: البحث الحثيث لاكتشاف مشاريع إنسانية حضارية، تترسخ في وجه آلة الحرب، فالجواب على السلاح بالسلاح هو خروج عن قيم التسامح، والترفع عن رد االضغينة بالضغينة.
وإذا كان الجواب عن العنصرية بالعنصرية والتعصب بالتعصب، فذلك خروج عن سيران الحياة، من كون التعصب ينفي الحقوق للآخر بالحياة والانفتاح.
حيث ترميز الأمور في ذهن النفساني حين العمل على الصدمة:
أن تتغذى النفس المصدومة بالعمل على الحقد مقابل دحض الباطل من دواخل المتأذين، والصدق مقابل الكذب بين الإخوة، والعنصرية بين حقوق الإنسان، وجرائم الحروب ضد الإنسانية.
ومن الحكمة الإنسانية في البحث عن صدمات الحروب: ترسيخ نموذج «برسي» في صراعه مع ميدوس، التجسد بأن لا ندخل في الحياة في حرب يجيدها العدو، وأن لا نستعمل سلاحاً هو الأقوى فيه، وإلا المعركة خاسرة بكل المقاييس، ولا سيما فيما يتصل بكسر الإرادات، وكسر النفوس المتعطشة للحياة.
اللاوعي الجماعي، أحد الجوانب الأكثر كموناً في الشخصية، ويميل في حالات الاضطراب النفسي إلى أن يسيطر على الأنا وعلى اللاوعي الشخصي، في توجيه الفرد، فاللاوعي هو النواة الداخلية لعالم الإنسان النفسي، إذ يقوم بوظيفته في جميع المستويات البنيوية للنفس.